غدا، نهار حرب أهلية عادي ولا اقفال للمدارس والجامعات

مقدمة : الانفجار

متعبٌ أن لا يكون المرء عاطفي في لحظات كهذه، أن يحس بعجز يشُل قدرته على التجاوب مع الواقعة المفجعة، فحتى لو غابت الكهرباء عن البيت،  تبقى أصوات الفتيان في الاحياء وأبواق السيارات وهتافات المواكب الطنانة في أحياء بيروت، تفيد الساكنين بما يصلهم عبر البث المباشر عادة. هذا الحدث لا يُنقل من الشاشات فقط، بل يُرى ويُعاش ويؤكد من خلال التجربة المباشرة للتوتر والغضب والصمت والضجيج الذي يلُف البلاد. فأن يُشاهد التشييع من التلفاز أو يعاش من خلال المشاركة فيه سيان. الانفجار كان يستهدف الجميع، غيرأن إحتمالات المسارات التي كان سيسلكها وسام الحسن، حددت ضحاياه المباشرين. كنت أوّد أن أكتب عواطفي في هذه اللحظات، أن أعبر كما يُعبّر البعض عن قذارة المشهد السياسي ومن التجيش الطائفي ومن توقف حياتنا وتفاصيلنا دون قرار منّا، في أننا نتذكر للمرة المليون بعد المئة أن البلاد هذه تملكنا ولا نملكها، نحاول العيش فيها فتحاول قتل نفسها مرارا، نقول لها نوّد أن نتخيل بديلا لهذا الواقع، فتلفظنا الى خارج المكان والزمان والحدث. في اليومين الماضيين حصلت أمور يتوجب علينا إكتشافها وإعادة النظر فيها، كتمرين لفهم اللحظة هذه. من على كنبة أمي التي لا يتماشى لونها اطلاقا  مع الوان البيت، أرغب في ممارسة التمرين هذا لغاية في نفس يعقوب.

فرضية :سقوط الاحياء الآمنة

مضى على الانفجار الذي أودى بحياة “وسام الحسن” ومرافقه أحمد صهيوني،  وجورجيت سركيسيان (مواطنة) حوالي ٧٢ ساعة، تم دفن  جورجيت في مأتم عائلي ولم يشارك أحد في تشيعها، عند الساعة الثانية وخمس واربعين دقيقة نهار الجمعة في ١٩ تشرين الاول ٢٠١٢، كانت في المكان الصحيح، في الوقت الخطأ، كان وسام الحسن ومرافقه في المكان الخاطئ وفي الوقت الصحيح. في ال٧٢ساعة الماضيات، لم يحدد عدد واضح للقتلى (الشهداء) أو الجرحى (الناجين والناجياتلم توجه الحكومة إعتذاراً الى أهالي الاشرفية ولم تقم بأعمال الاغاثة فورا، لم تقم قوى الامن الداخلي بالتفاعل مع الطرقات التي قطعت كما في السابق، لم يتفاجأ أحد بالظهور المسلح، لم يسأل الناس زعمائهم، ماذا كان يفعل وسام الحسن في حي سكني؟ واجب من في الاساس أن يحتمي بالاخر؟ولكن، قبل أن ندخل في متاهة الزمن المتعلق في الانفجار، لنتعلم أن الاحياء السكنية شكلت فضاء آمن ليحتمي فيه رجل مخابرات من موت المرتقب. في الوقت الذي يشكو منه اللبنانيون واللبنانيات من غياب الامن والامان في الشوارع العامة، يعترف لنا وسام الحسن أن مصير اللبنانين واحد في الموت، ولا فرق بين بين مواطن وسياسي لحظة الموت بالعبوة، ففي إنجرار المواطنين مع زعمائهم يوافقون ضمنا على إستعمالهم كأدرعٍ بشرية. في مشهد محاولة إقتحام السراي تأكيداً لهذه الفرضية، كعادة أهل المتوسط، لا يتم الاحتفال بالحياة، دون تقديم أضحية، في حاضرنا قد يجوز إستخدام الجثث -الاشلاء كقربان‪.

متاهة الزمن :صلة مدينتين

تقول ليندا هوجان في كتابهاالسيدة التي ترعى العالم” وتحديدا في مقدمة الكتاب ” حين يقول المرء إني أتذكر، يصبح كل شيئ ممكنا” وهذا في سياق تركيزها على فكرة أن الذاكرة تشكل حقلا للشفاء وإعادة تركيب العالم (التاريخوذلك ليس للشخص الذي يعيد تجميع ذاكرته فقط “بل للثقافات” ايضاً، حين نتفاجأ بإنفجار الاشرفية، نكون عاجزين عن التذكر، ولا نستطيع ان نعيد تركيب الحاضر كما نعيشه، في التفاجئ نحرم أنفسنا من تركيب الماضي، تاريخ الانفجارات يملئ ذاكرتنا. لا يتقدم الزمن في بيروت، لا يتغير، يبقى ثابتا، يعيد تكرار نفسه. المكان يتغيّر ويبقي على الزمن نفسه، فبيروت تغيرت جميع معالمها، طرقات تماسها تمددت وزادت أبنيتها وزاوريبها، يعيش فيها الناس متصلين بالزمان لا بالمكان،  اي وقت إطلاق النار ووقت إختفائها، في بيت جديد تستطيع ان تعيش نفس الزمن الذي لم تضاف فوقه سنين السلم المفترض، حلقة زمنية مفرغة تعيدك الى نفس اليوم الذي وعييت فيه إنك في حرب أهلية، لا يهم اين كنت ومن كان والدك وما السنة التي ولدت فيها واي معركة صادفتها، هو النهار الاهم وهي اللحظة الاهم، اللحظة التي ستبقيك اسيرها، مكررة نفسها في توترك وغضبك وهروبك منها في محاولتك السخيقة لإختلاق لحظات موازية لها. اللحظة هذه حقيقية وتعتاش من واقعك المتوازي لذاكرتك المغبشة، اللحظة هذه، هي الجسر إذا عبرته، ستستطيع التنقل بسهولة بين بيروت وبيروت الموازية لها. ومن شروط هذه المدينة(بيروت الموازيةان تتذكر وجودها، أن تستطيع تركيب خريطتها في لحظة، أن يختفي سكان بيروت من شوارعها وأن يملئها رجالا لا ملامح لهم، وقتلى لا أهل لهم وصلوات لا تسمع، ان تكون في غرفة ولا تستطيع تحديد الزمن  فيها لانه يصلح ان يكون حاضرا ويصلح ان يكون ماضيا ولا دليل  قاطع اي زمن هو.

الهوية كردة فعل

أحسب إذا سألنا مصري، لماذا هو مصري ستتعدد الاجابات وقد تحمل بعضا من السخافة، وقد تحمل بعضا من العمق، غير انها جميعا ستكون إيجابات صحيحة. أحسب إذا سألنا لبناني، لماذا هو لبناني، ستأتي الاجابات كلها متعلقة بظرفية ما، وستبدو لنا كأنها مشروطة دائما بحدث يثبت لحامل الهوية هذه إنه لبناني. في شباط ٢٠٠٥، تجلّت صناعة جديدة للهوية اللبنانية والتي قامت على تعريف نفسها بظرفية هيمنة الاخر عليها واشترطت خروج الجيش السوري النظامي ووقف الهيمنة السورية على لبنان، كعوامل لإكتمالها وأيضا لوجودها، إذا سألت اي من الشباب في طريق الجديدة سيقول لك الامر نفسه في لغة مبسطة وفطرية، وإذا سألت اي من الشباب المناصرين للقوات لن يتردد في صياغة الفكرة هذه بلغة تشدد أكثر على الوجود الغريب والتغريب الذي عانى منه المسيحيين في لبنان. صياغة الهوية هذه وتلقينها للمناصرين وترويجها في الخطابات والدعايات السياسية، سمحت للفروقات الخاصة لكل الجماعات التي انضوت تحت خطاب ١٤ آذار السياسي، في الظهور امام العالم اولا، وأمام الشعب اللبناني، وككتلة متماسكة أمام الطرف الاخر، والذي ايضا إستحدث خطاب المقاومة في مواجهة الكتلة هذه، والذي ظهر  أيضا ككتلة متماسكة امام الشعب اللبناني، لا العالم وذلك بسبب علاقة حزب الله الخاصة المنفردة في مواجهة العالم الخارجي والذي لا يملكها اي من حلفائه، مثلا في حرب تمّوز كان العدوّ المستهدف حزب الله لا التيار الوطني الحر.

 في ٢٠٠٥ سمح  الوضع السوري للخطاب اللبناني المصنوع في ١٤ آذار أن يلقى آذان صاغية، غير أن الوضع السوري الحالي لا يسمح بذلك أولا لأنه لا يستطيع أن يحاكي السوريين ككتلة واحدة وبالتالي كعدوّ متماسك، وثانيا لأن الممارسات العنصرية ضد العمال السوريين في المناطق المؤيدة ل١٤ آذار في سنواتهم العجاف الماضية، بينت لعدد لا بأس به من السوريين واللبنانين، مدى شوفنية الخطاب هذا، ومدى سطحيته. منذ مقتل الحريري واللبنانيون في سباق التفكّر في معاني أن يكونو لبنانين، وبدل أن يدرسو تاريخهم الخاص واستخلاص معالم هويتهم منه، قاموا بأفتراضٍ لهذه الهوية، فأنت إما لبناني متحضر، تحب الحياة، تتظاهر بأناقة وترسم حدود هويتك بناء على موقع الغريب فيه لا الذات، أو أنت لبناني توّد القضاء على إسرائيل وكل من لا يوّد ذلك فهو خائن وعميل حتى لو كان فلسطينيا. لم تستطع حكومات ١٤ و٨ اذار المتعاقبة على إقرار أي قانون يخدم من في لبنان بشأن البطالة، السكن، الكهرباء، العنف ضد النساء، الزواج المدني، الامن، السرقة، اسعار الاتصالات الخليوية، الزراعة والمزارعين، الرواتب، النقابات، نظام الكفالة العنصري، الطبابة والاستشفاء، المواصلات والبنزين، الجامعة اللبنانية، التحرش الجنسي والاغتصاب وأمور لا تعد ولا تحصى. لا يستطيع اللبنانيون فهم ما بعني ان يكون المرء مواطن الا اذا اختبر علاقة سليمة مع الدولة، الا إذا أقاموا عقد اجتماعي سليم، يتعرض الطرفين فيه للمحاسبة والمسائلة والاهم من ذلك، لا يتهدد هذا العقد بشخوص الحكام وطبائعهم ‪.

في إقتناص الفرص

عند وقوع أي حدث، يبادر الناشطين على الفايسبوك تشارك الخبر والتعليق. أحمد الله مرارا على خفة دم بعضهم، واخشى مرارا على سلامة بعضهم  من جراء التعابير التي يعبّرون فيها عن عواطفهم وحالتهم النفسية، ومرات كثيرات يحيرني ما يدعون اليه او ما ينظّر له البعض منهم، و بالتحديد سهيانهم عن تفاصيل قد تفسد للوّد قضية، ومرات كثيرة توقعهم في أزمات وأخطاء هم في الغنى عنها. لا شك أن نوايا الناشطين جيدة وشغفهم واضح ورغبتهم في التغيير شرعية ومحقة، غير أن النوايا لا تكفي لبناء حركات سياسية  وخطابات سياسية بديلة.  في ال٧٢ ساعة، بادر المئات من الشباب والشابات الرائعات في دعم وإغاثة المتضررين من تفجير الاشرفية وتحمّل المسؤولية عن أمراء الحرب، كما بادر العديد منهم الى محاولات للفت نظر الرأي العام وإن فقط من خلال الفضاء الالكتروني، الى محاولات ١٤ آذار و٨ آذار في بث  خطابات الكراهية والطائفية في قلوب المواطنين، ومحاولة طرح بدائل ومنها الدعوة لعدم التصويت في الانتخابات البرلمانية وإستعادة البرلمان و التحذير من المشاركة في الاعتصامات والوقفات التي تقف ورائها جهات محرّضة على الفتنة في الايام الاخيرة، هذه المبادرات والطاقات المبذولة والدعوات الى التحرك، تبدو لي ناقصة وغير مكتملة من حيث العمق السياسي والافتراض بأن الحق بالتصرّف لا يترتب عليه مسؤوليه.

 تذهلني قدرة الناشطين في لبنان على التماهي مع السلطة من ناحية نكرانها لحقيقة ١٤آذار و٨ آذار والتصرف كأن الطوائف المُشكِّلة للتحالفات هذ،ه ليست صلب المشكلة وتحويل الانظار والغضب من النظام المركّب ورموزه وطوائفه وأُمراء حربه، الى التحالفات التي تغطي الطوائف وتحمي النظام، هل نفترض أن في إفشال وإقصاء ١٤ و٨ آذار عن مواقع السياسة نضمن إنهيار النظام اللبناني؟ كأنما الدعوات والتحركات هذه، لا ذاكرة لها لطوائف تطاحنت ل٢٥ عام ولم يستطيع اي منها القضاء على الاخر. للجميع الحق في إقتناص الفرص والاستفادة من الجو العام في البلاد لطرح حلول وبدائل، غير أن إقتناص الفرص عند اؤلئك الذين يعتبرون انفسهم في مواقع خارجة عن هذا النظام لا يكون في الانخراض معه  وتحديه في ملعبه اي الانتخابات، ولا التشكيك فقط في خطوط ١٤ و٨ آذار، بل بإسقاط الاقنعة وتسمية الامور بأسمها وبطوائفها وبمصالحها، وأقتناص الفرص يكون بإخراج العلمانية من موقعها كبديل عن الطائفية الى موقع معادي لها، هكذا تحسم المعارك السياسية. ففي ثقافة الطائفية يسهل لاي كان بأن يستغل الخطاب العلماني (راجع تصريحات نبيه بري خلال تحركات إسقاط النظام الطائفي)، إما في معارك من أجل العلمنة العضوية، تصبح العلمانية عملية تحرر، لا عملية نأي بالنفس من جرائم النظام الطائفي.

لا بأس في أن  نقول مانترا “إسقاط النظام الطائفي”  لتهدئة النفوس ، غير أن الحق  عند الضرورة لا يعوّل عليه، كما يقول إبن عربي. تفترض الناس أن النظام الطائفي في صوب، و”الشعب اللبناني” في صوب اخر، وإنهم كالزيت والماء لا يتمازجان وإن زوال أحدهما هو من شروط الحل في مواجهة الازمات. لا أدري من أين يستمد الناس بالمعرفة في التبشيىر في “العلمنة”وكيف لا ينظرون الى الطوئف بوصفها رهينة أحزابها ويتضح هذا في التوتر الذي يحصل بين المرجعيات الدينية والزعماء داخل الطائفة الواحد. الدرب لاسقاط النظام الطائفي عند اشتداد المحن، يشبه طريق نزهة في حديقة النكران.

 في الجو العام، اذا لم يُحصن الموقع الذي يطرح البديل من خلاله، سيسهل على أيٍ كان إستعماله، ففي ظروف الحرب يستباح اي شيئ. الجو العام للبلاد لن يتغير في القريب العاجل، وقد يحصل أن تكثر عمليات القنص والاشتباكات الاهلية- الطائفية، والظروف هذه مناخاً مناسبا لإعادة تعزيز الثقافة الطائفية، والاغلبية الصامتة في هذه الاوقات هي الاغلبية المتمتعة بحصون طوائفها وحماية ميلشيات الاحياء أو بالاحرى سجنائهم حتى إنذار آخر، حتى لا يتفاجأ الناشطون في تحركاتهم المعبّرة عن “الاغلبية الصامتة”، عليهم التمهل والتحصُن وحفظ تاريخ البلاد أبا عن جد، وعن الغائب  والحاضر و”كرجة ماي”، كما عليهم الانتباه أن الاعلام في الاوقات هذه مسعور وملوّث وسيستغل اي تحرك إما للقضاء عليه أو تقليب الناس “الصامتة” ضده وأعتقد ان الناشطين قد تعلموا من درس “إسقاط النظام”كيف يستطيع الاعلام أن يؤثر عليهم، خصوصا في خطورة صناعة النجوم. في هذ الاجواء، على الناشطين توخي الحيطة والحذر، فالحرب ليست  حربهم والجبهات لا تتسع للجميع.

في أن غدا نهار مختلف (مقطع لغاية في نفس يعقوب)

حين يشتبك المسلحون  مع المسلحين، لا أظنهم يعبئون بالطفلة النائمة،و إن قطع الطرقات يؤثر على علاقة العاشقين سلبا، تماما كما لا أظن أن المخيّمين في وسط بيروت يدرون أنهم يجعلون من الغد نهاراً معقدا، فلا نستطيع تجاهلهم ولا نستطيع (ولا يجدر بأحد) الانضمام اليهم. لا أعتقد أن الناس التي تستفز الاخرين في هذه اللحظات لها خطاب سياسي ثابت، بل حاجة ماسة للفت الانتظار، مثلا أن يُصف قبر رفيق الحريري بمكب نفايات دون جهد في تنميق الفكرة، وهي تحتمل أن تكون نصا أدبيا يستعمله حتى مناصري تيار المستقبل، فالنفايات في التشبيه تستعمل للتدليل على القذارة، وبالتالي النظافة والتطهير ضمناً. غدا  حين سينزل الناس ويذهبون الى يومياتهم و يستنكروا ويشجبوا ما حصل، ويكملون ما لم يلحقوا على انهائه نهار الجمعة، سيكون مؤلما، وليس على أحد من حرج في أن لا يقوم بذلك، غدا نهار مختلف وكما يقول وزير التربية،  نهار حرب أهلية عادي ولا إقفال للمدارس والجامعات

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: