وطن التستسترون: أنا هنا

شاء القدر أن يكون للبنان حظ في النجاة من الحوادث الفردية والجماعية والحروب والأزمات على خير، وعلى الأرجح أنّ النجاة هذه تكلف لبنان شباناً يقتَلون وسيارات تحرَق و بضعة مئات من الرصاص والذخيرة تستعمل هباء والى ما هنالك، وما هذا إلاّ كلفة رمزية لبلد لا تشرق الشمس فيه إلاّ وهناك احتمال في قلب المئات من النائمين والنائمات على أرضه بأنّ الحرب قادمة.

 

أيار ٢٠٠٨

 

أشعل سيجارة وأنتظر أن تصلني رسالة نصية من أختي بأنّ الوالدة نجحت في الانتقال من بيتها في المزرعة إلى خارج بيروت. صديقتي التي تزورني من نيويورك تنظف المطبخ وتلفزيون “الجديد” ينقل الحرب مباشرة، رغم أنني أسمع الرصاص والقذائف في راس النبع. أنتبه أنّ جارتي على السطح تسقي زهورها. أعلم أنها ستدق بابي بعد قليل لتعطيني بعضاً من الغاردينيا. صديقتي النيويوركية تلعن في المطبخ: لم يعد لدينا نعنع يابس. تكسر عرقاً وتجلس قرب باب البلكونة في صمت تام.

لم أكن نفسي في أيار ٢٠٠٨. كنت أشبه بجثة تحاول أن تحسم قرارها بين التنفس والبقاء جسداً وبين البقاء في السرير أسابق الوقت بالنوم. في أيار ٢٠٠٨، لم أكن أحب أحداً ولم أكن أهتم بعدد القتلى ولم يكن يعنيني من سينتصر ولم أكن أفكر إلاّ في سؤال واحد : متى ينتهى الموضوع وهل سينتقل الاقتتال الى القنطاري وهل سأضطر الى مغادرة بيتي؟ لم أكن أريد مغادرة المنزل. سيدي محمد غادر منزله في حيفا في ظروف مشابهة ولم يعد- صوت الرصاص والقذائف يردّني الى ذاكرة ليس لي- أشارك صديقتي أفكاري. تبتسم لي وتطلب مني أن أتابع الأخبار وأترجم لها ما يجري فلا جدوى من الهواجس الفكرية الآن، خصوصاً أننا نعيشها في الواقع. حضنتني صديقتي النيويوكية لساعات متواصلة- صوت القذائف والرصاص يعيدني الى جثة رأيتها وأنا طفلة تتعفن على مدى أيام-..

 

ظهر انسحاب الميلشيات. ذهبت الى بيت صديقتي في الصنائع وكانت قد وصلت من عمان. كان لا بد من تهوئة منزلي من الخوف. لم تكن بيدي حيلة سوى أن أشارك معها حكايات عن شجاعة مختلقة، عن تحليلات سياسية منمقة، أي شيء إلاّ الحقيقة.

 

بعد أيار

ماذا تفعل النساء في هذا البلد؟ غير البديهي، ماذا يفعلن في بلد يتقاتل القاطنين فيه بالأسلحة المتوسطة على أتفه الأمور؟ هل يقمن بأي دور غير تلقي الحرب كما هي ومحاولة النجاة من الشبان المنفعلين على أمن البلد؟ وما هو أمن البلد إلاّ أمن الرجال فيه وأمن طموحاتهم. كيف تتجاهل النساء هذه الحوادث كل يوم؟ كيف نبرر لأنفسنا أننا نستطيع أن نقدم اقتراحات لمجلس النواب لتعديل قوانين مميِزة في حقنا من دون أن نفهم أنّ مجموع حيواتنا هنا لا تساوي شيئاً، لأننا لا نملك القوة التي يفرضها السلاح على القانون؟

 

“لنفترض أنّ النساء الناشطات في السياسة قررن حمل السلاح والدخول في اللعبة السياسية كما هي وقررن أن ” يجررن البلد نحو الفتن، ماذا قد تكون ردة الفعل؟ ماذا لو قررت النساء إلغاء جندرهن والانضواء إلى طائفة جديدة اسمها ” طائفة النساء”؟ ماذا قد ينتج عن ذلك؟ أعلم أنه في الافتراض هذا الكثير من الاستسلام للطرق الذكورية في العيش  وربما النهار الذي تقرر فيه النساء هذا، يكون النهار الذي يكون الأمل في التغيير هنا معدوماً بالتأكيد.”

 

أكتب هذا في مفكرتي بعد أيار، وأعلم أنني أخطأت التفكير ولكنني أعلم أيضاً أنني لا أستطيع أن أكتفي بالهامش فقط إذ رصاص الحرب يطال الهامش. وإن كنت أجيد ادّعاء الشجاعة في العيش هنا أمام أولئك المتعطشين إلى سماع قصص عن الحرب، فأنا لا أستطيع ادّعاءها أمام نفسي.

 

وطن التستستيرون

 

تخبرني صديقتي عن سيارتها المهشمة والزجاج الذي انتشر على جسدها خلال مرورها أمام المعترضين على انقطاع الكهرباء في بيروت. أسمعها وأفكر في أزمة الكهرباء وأفهم الغضب الذي يعتري الشباب والأهالي وأفهم بالتحديد الغضب الذي يولده الحرمان وخصوصاً إذا كان حرماناً ظالماً. غير أنني لا أفهم كيف تؤثر الكهرباء على الشبان، فبحسب تقاليدنا التي يفتخرون بالمحافظة عليها، في المنزل، لا يقوم الرجال بالاعمال المنزلية إذ تلك مسؤولية النساء والفتيات. وربما تؤثر الكهرباء على أوقات مشاهدة التلفاز وربما المروحة أو المكيّف واستعمال الكمبيوتر ( خصوصاً الأصغر سناً) ولكنها تؤثر في الغالب على البراد واستعمال المولينكس والغسالة والهوفر والآلات التي غالباً ما تكون النساء مسؤولة عنها. في انقطاع الكهرباء هذا، تتأثر الأعمال المنزلية أكثر من غيرها ولا يعود نظام البيت كما يجدر به أن يكون. في مشهد وأخبار الشبان المعترضين على انقطاع الكهرباء دليل على أزمة تتشابك، عن فقر وعن سياسات حكومية مقلقة وعن غضب محذر ولكن في المشهد هذا أيضاً صمت مريب، صمت عما يجري داخل المنازل حين تقطع الكهرباء عنها.

 

أن نعيش في هذا البلد هو أمر وأن نعيد إنتاج السياسة فيه كما هي أمر آخر، نقع في فخ إنتاج أنفسنا كما نحن. نساء في وطن التستستيرون.

  

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Category: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: