إلى أين يذهب الألم؟

في بدايةِ الحرب السورية، أذكر حين كنت أشاهد أرقام الضحايا من الأطفال ترتفع يوماً بعد يوم. وقتها سألت نفسي السؤال القبيح، ولم أعرف حينها أني سأسأله كثيراً في عالمنا العربي الحقير هذا... "هل أحزن أكثر على الذين ماتوا، أم على الذين لا يزالون أحياء؟"

وإن تكلمنا عن الأحياء، فأي حياة يعيشون؟ في مصر منذ فترة قتل النظام شابين لأنهما لم يتمكنا من دفع تذكرة القطار. وفي لبنان قتل النظام أهلاً لأنهم لم يتمكنوا من إرسال أولادهم إلى المدرسة.

من العراق وسوريا إلى غزة، إلى مصر واليمن ولبنان... هذا الألم كله، إلى أين يذهب؟

أذكر في صغري الليالي الكثيرة التي سمعتُ فيها أمي تبكي لأن المديرة طردتنا -مرة جديدة- من الصف، لأننا لم ندفع القسط. أذكر دموع أبي لأنه -مرة جديدة- لم يُدفَع له أجرُه آخر الشهر. أذكر عروس الخبز الحاف التي كانت أمي تأكلها لتوفر لنا الجبنة... آلامي هذه، على صغرها، لم تذهب. آلامي هذه صارت غضباً أفجره هتافات في الشارع اليوم، ولكن، لو أطلقتُ له العنان، لفجرته ناراً تأكل قصور الأغنياء، أشعِلها بيدي أنا. فأين للآلام الكبيرة أن تذهب.

لعل هذا دورنا اليوم. ستستمر الثورات، وستستمر المقاومة، وقد تنجح يوماً بالقضاء على المحتلين جميعاً، أكانوا احتلوا أرضاً أم حكومات. ولكن حتى ذلك الحين، لن نستطيعَ وقف الألم.

في لبنان اليوم، هنا كراشدين لا تزال تعيش فيهم آلام الحرب الأهلية، تروما جماعية تنهض في لحظة حين يشاهدون بوسطة. هذه الآلام صوَّبَها زعماء الحرب يومها. صارت كرهاً للآخر وخوفاً منه، صارت تبعيةً عمياء لمن قد يحمينا يوماً لو عاد شبح الوجع يرفرف فوقنا، صارت انصياعاً للأمر الواقع الذي، بمرارته، لا يزال أحسن من الماضي. وبقي الطفل المتألم يرتجف كلما هزّ أحدهم عصا الطائفية أو العنصرية.

في لبنان اليوم، من المتوقع أن الأزمة الاقتصادية والسياسية لا زالت في بداياتها. الناس تزداد فقراً يوماً بعد يوم، واليأس يودي بها إلى الموت. السلطة الملعونة لم ولن تأبه يوماً بشعبها. سيستغلون الوضع، ويزدادون غنى. سيهربون بأموالهم إلى جناتهم الأرضية حيث لا يسمعون أنين البشر العاديين. الألم سيزداد. قد نبني بعض شبكات الأمان، قد نخترع اقتصادات بديلة تفيدُ البعض منا، قد ندفع قروضنا باللبناني لنوفر الدولار لِمن يحتاجه أكثر، قد نجمع تبرعات لعائلة او اثنتين أو مئة. ولكن لن يمكننا أن نطرد لعنة الألم. فكيف نقوم كنسويات بتصويبه. كيف نبني الشبكات اللازمة لكي نحوله إلى نار تحرقهم هم، ولا تحرقنا؟ كيف نحوله إلى غضب على الظلم والظالم وليس على المظلوم الذي يشبهنا؟ وإن لم نلعب نحن هذا الدور، من سيلعبه؟

غدا تأتي المنظماتُ غير الحكومية الدولية لتقديم "الدعم النفسي" لضحايا الأزمة. غداً يدفعون الكثير الكثير لمشاريعهم الطنانة، ويكتبون التقارير المبهرة عن النتائج الوهمية التي حققوها، ويصفقون لأنفسهم في مؤتمرات الختام. غداً سيكبر هؤلاء الاطفال ويكبر وجعهم معهم، وسيشخِصونهم بأمراض ذات أسماء كبيرة، وسيخفضون سعر أدوية الأعصاب "رأفة" بهم، ويتوقعون منا عرفانَ جميل على إنسانيتهم. ومن ثم سيأتي العلماء ويستغربون كمية الأمراض النفسية في هذه البقعة من الأرض. "الأمراض النفسية جينية، وجينات شعوب الشرق الأوسط سيئة".

الثورة في الشارع مهمة، والاقتصادات البديلة مهمة، والدراسات والحلول مهمة، ولكن الأهم يبقى الإنسان الذي هو في صلب كل هذا. فأي أوطان ستبنى إن لم نعترف بحجم الموضوع، وننظره في عينيه، ونفعل شيئاً بحقه. مَن سيستغله هذه المرة، وأين سيتبلور بعد ثلاثين سنة؟ ما هي الحلول التي يمكننا أن نفكر بها، والشبكات التي يمكن أن نبنيها.

إن أحداً غيرنا لن يلعب هذا الدور فعلاً في مجتمعاتنا النتنة، حيث المال هو المعيار الوحيد، وقيمة الإنسان هي في إنتاجيته، حيث الناس أرقام، وكل ما يحدث لنا "آثار جانبية" عادية وغير مهمة أمام "سياسات الدول".

كيف يمكننا أن نعمل معاً لإعادة بلورة إنسانيتنا، على الرغم من كل شيء. كيف لنا أن نُشعِرَ من لم يعامله المجتمع يوماً على أنه "بني آدم"، بإنسانيته. كيف نُخرج الموسيقى والفن والثورة وبدائل الرأسمالية من رحم هذه الآلام بدلاً من العنف والكراهية. كيف ندخل إلى بيت كل طفل وطفلة وشاب وشابة، لنخبرهم باننا نراهم، وبأن آلامهم تهم أحدهم أو إحداهن. تهمنا لأنه انسان وليس لأنه منتَج.

ليس لي أي من هذه الإجابات، ولكنها اليوم لي، أكثر أهمية في ما يُسأل. انه الدور الأكبر الذي لا يفكر فيه أحد، وإن فكرنا نهربُ منه، لأنه صعب وأجوبته غائبة. لأنه "غير مهم" ولم يفكر فيه الكثيرون قبلنا. فلنبدأ بالعمل.

(لمن يهمها التواصل معي من أجل التفكير أكثر، وربما البدء في شبكات ما...)

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Category: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: