مات عمّي. ذهبت في الصباح الباكر إلى المستشفى لأراه للمرة الأخيرة. كان الرجال متجمّعون في ناحية، خارج المغسل، وزوجته تجلس بعيدا في الكافيتيريا.
جلست مع الرجال أنتظر أن يخرجوه أو ندخل إليه. قالوا لي سندخل لنغسّله.
من؟
“رجال العائلة فقط”.
سكتّ.
دخلوا وانتظرنا، كمن لا يحقّ لهنّ ما يحقّ لذوي الشاربين، لأنهم يعرفونه أكثر منّا أو يحبّونه أكثر فيكون لهم الحق بأن يلمسوه ويغسلوا عنه بقايا هذه الحياة عليه ويودّعونه بأيديهم قبل قلوبهم.
ثم أخرجوه، فوددت أن أنادي زوجته لتكون معه قبل الوداع. “لا يجوز للزوجة أن تراه لأن العقد بينهما قد فكّ بعد موته. فهو لا يحلّ لها الآن”. منطق! كلّ شيء إذا مرتبط بالحلال والحرام الذي هو مرتبط بسوء ظنّ بالإنسان وتفسير للنوايا والخبايا من منحى جنسي.
هي تريد أن تودّع زوجها. لأي درجة من التعقيد قد يصل هذا الأمر؟ لم يكن فرويد سابق لعصره، بل متأخر جدّا عنه. فقد أعاد تفسير ما قاله الدين وحلّله عن الإنسان ودوافعه. طيب، نشكر الله والشرائع على هذه القوانين التي لولاها لما استطعنا السيطرة على المجتمع: أتتصوّرن وتتصوّرون ما الذي كان يمكن أن يحصل لولا سمح لهذه المرأة برؤية زوجها الميت لآخر مرّة؟ ستكونون مختلّين لولا فكّرتن وفكّرتم بنفس الطريقة التي فكّر فيها من صاغ هذه القوانين.
ما علينا، ودّعناه وصعدنا في سيّاراتنا للذهاب إلى المقبرة. “سنذهب إلى الجامع، وتبقين أنتنّ في الخلف عندما ندفنه”. “لم؟”. “لأن الدفن يحصل في غياب النساء، حتّى أخواته وبناته”. كنت أستشيط غيظا. صدمات تنزل عليّ منذ الصباح الباكر وأنا أبحث عن مساحة للحزن ودقيقة لوداعه. كلّ شيء يرفضنا، نحن النساء اللواتي كنّ في حياته. يرفضنا ويمنع عنّا الحزن ولحظات الإنفصال، ويلصق بنا ما يشعرنا بأننا أدنى وأقل ممن يسمح له بالتعامل مع الموت.
ذهبت إلى المنزل لنبدأ استقبال المعزّيات. كانت ورقة النعوة معلّقة على الباب. اسم إخوته وأبنائه وأصهرته. لا نساء. لا وجود لزوجته أو بناته أو أخواته. كان الموت والله والدين والشيخ والجامع والمقبرة وكلّ شيء يرفض وجود المرأة. وقفت أهذي. ما بي؟ ما العلّة فينا ليرفضوا وجودنا؟ ماذا ينقصنا لنصبح “رجالا” أو حتّى حجرا، أي شيء مرئي؟ حتّى دخول الجامع لرؤيته، من بعيد يدفن، كان محصورا على الفتيات والنساء اللواتي لا يحضن. هو إذا (إذا ما اعتبرنا أنه موجود وأنه مذكر) يخلق المرأة ويبرمجها على أن تحيض ثم يرفضها.
تسأل سيمون دو بوفوار في كتابها الجنس الثاني “ما هي المرأة؟” وتشرع تحاول الإجابة، فتقول “إن بلورة السؤال بحدّ ذاتها، تطرح بالنسبة لي إجابة أوليّة. فإن حقيقة أنني أطرح هذا السؤال لها دلالة. لن يشرع رجل يوما فيضع كتابا عن الحالة الخاصة للذكر.” وتكمل لتقول بأن ثنائية الرجل والمرأة ليست حقا ثنائية “كالقطبين الإيجابيّ والسلبي، فالرجل يمثّل الإثنين الإيجابي والمحايد كما نرى ذلك في الإستعمال العادي “للمذكّر” للدلالة على الإنسان عامّة، بينما تمثّل المرأة السلبي فقط”.
هي إذا الغير مرئي، الغير معترف بوجوده، الأقل من منبوذ لأنها لا تستحقّ حتى النبذ في واقع يفرض الواحد الأوحد الأحد الذي “لم يكن له كفوا أحد”، الرجل-الله كبداية ونهاية للحياة. هي ما ينقص وما لا يجب أن يظهر، وهو الكامل.
وتكمل دوبوفوار قائلة “النتيجة هي إذا هذا: تماما كما كان للقدماء مفهوم مجرّد للمرجعيّة يعتمد عليه لتقرير ما هو مائل، كذلك هناك المفهوم المجرّد للإنسان، المذكّر. المرأة لها مبيض ورحم: هذه هي الغرائب التي تحبسها في حكمها غيرالموضوعي ويسجنها في حدود طبيعتها الخاصة”.
أتكون مشكلته معنا إذا في المبيض والرحم والثديين؟ لأن وجودنا في مكان ما أو عدمه يعود- بالنسبة إليهم- إلى المبدأ البيولوجي لوجودنا وليس أكثر. “غطّي جسمك، غطّي شعرك، غطّي يديكي ووجهك، غطّي العينين”…أنستأصل المبيض والرحم والثديين إيضا؟ أو يريدون إبادتنا، ويخترعون، كما في كتاب ألدوس هكسلي، مكنات تبيض وتفبرك أجنة؟
لنبدأ منذ البداية. يبدو وكأن –كما قالت دو بوفوار- المرأة هي خارج الفكرة المجردة للإنسان، ويبدو وكأن الله-الرب-الخالق هو “الستاندارد” الذي يتشبّه به الإنسان. فهو، الخالق-المعبود مذكّر. لقد صنع إذا آدم على صورته وصنعنا من ضلع آدم…على صورة ماذا صنعنا؟ نحن اللواتي لم نخلق على صورة أحد، بل وجدنا، هكذا كالخطأ.
من قال أن ما من خلقتنا ليست مثلنا؟ من قال أنها ليست مثل أمّي أو السماء عندما تمطر أو الأرض وهي تعطي الثمار؟ لا أقبلها إلّا هكذا! أريدها مثلي، بثديين وأوجاع فترة الطمث وديسك مبكر وخوف دائم من علامات الترهّل واندفاع مستمرّ نحو المجهول والملوّن. هذه إلهتي، مثلي ومثلكِ ومثل من أرادها أمّا وحامية، لا شيخا عابسا غاضبا يهزّ إصبعا مهدّدا عند كلّ فرصة.
أرفض قصّة خلقي ووجودي هذه، وعبرها التاريخ والدين الذين يكتبهما الرجل فيستثني المرأة ويشيطنها ويجعلها منذ الأزل، تابعة، جزءا من كلّ وأعضاءً لا يجب أن ترى النور. وأرفض أن تبرمج علاقاتي وأحزاني وفرحي بطقوس هي قمّة في الهبل والشوفينية العمياء. وأرفض محو المرأة –تحت أي حجّة، ولو كان وجود الله أو عدمه معتمد عليه- فقط لأن من ترفع صوتها بوجههم ستكون دون أي شك، كافرة، زانية، تتحدّى سلطة الله والدين. نعم نتحدّاها. ونرفضها. نحن موجودات في كل وقت وفي كل مكان، حتى ولو لم تريدون رؤيتنا. ففي البدء كانت المرأة، حملت وأنجبت وأرضعت، وفي النهاية تكون هي، عند الموت والزوال والإفتراق.
Publisher:
Section:
Category: