صراخ نساء وهراوات تعلو وتسقط ، تعلو وتسقط…لم نفهم ما الذي حصل. كنّا نحمل يافطات ونتحدّث ونهتف أحياناً . وبدأ“الخبيط” فجأة، دون أن نعي لماذا قبضوا على أحد الشبّان. جرّبنا أن نغلق الطريق الرئيسي في شارع الحمرا حتّى يعود الشاب. تقدمّت مع العشرات من النساء والرجال لإقفال الطريق، وهجم علينا رجال الدرك بعصيهم وأيديهم العملاقة. لا أذكر إلّا إحساسي بأنني صغيرة جدّا، يتدافعني من حولي، وإذ أنظر إلى أعلى أرى كعبي بندقيتين يرتفعان فوق رأسي. أغمض عيناي وأقول “خلص، أكلتها“، ولكن ثمّة من يدفعني بغير قصد فأفوّت الضربة. تتقاذفني المتظاهرات والمتظاهرون.
لم أرهم يوما ينهالون على متظاهرين بهذا الشكل. ضربوا ونكّلوا واستشرسوا. كنت أسمع صراخ النساء من حولي دون توقّف. صرخت بهم أنا أيضا إذ رأيت الغضب فيهم وهم يضربوننا “**** بأكبر أرزة على راس أكبر ضابط…يا حيوانات“. ركضوا وراءنا وانهال العشرات منهم على شخص واحد يفجّرون فيه حقدا لم أعرف في البدء منبعه.
“ضربوا أدهم وأخذوه“، قالوا لي، ضربوه، وأنا لم أكن هناك، واعتقلوه ولا أدري ما أفعل. تسمّرت مكاني وأنا أتنفّس ببطء، أحسست بعضلات وجهي تتشنّج. ضربوه، يعني “فجّموه“. لم أستطع الصراخ ولكنني هجمت أدفع بهم فأفشّ خلقي. تحوّلت المظاهرة من مطالبة بحقوق ورفض لواقع إلى لعبة سيكولوجية: تنفيس عن أحقاد وغضب ثم ردّات الفعل.
لأوّل مرّة أراهم هكذا وقد فقدت عيونهم جزأ من بشريتها، وانهالوا علينا بالضرب وكأنهم يفرّغون فينا كلّ غضبهم من الحياة وظلمها لهم…أو يفعلون ذلك لأنهم يدركون أننا على حق، وأننا بوجودنا هنا نخلق ثغرة في نظامهم.
كنت قد حضّرت يافطة صغيرة كتبت عليها “..مبلا في بديل“. كتبتها وأنا أتذكّر كيف، مذ بدأت أسأل عن تأثير هذا النظام علينا وأبحث عمّا يمكن أن يغيّره، كان الجواب يأتيني: “معك حق. نظام ظالم، بس ما في بديل“.مبلى في بديل، ولأنه “في بديل“، ضربونا.
ضربونا لإننا نزلنا إلى الشارع وقلنا لهم “مبلا في بديل“، لنظامهم الرأسمالي، لسياساتهم الإقتصادية، لهمجيّتهم، لمفهومهم المجزّئ للحياة، لفلسفتهم التي تقول بأحقيّة الأقوى، لنظرتهم إلى الأمور التي تقتل الجمال. البديل يدمّر منطقهم.
في كلّ مرّة تقع في سلسلة من تناقضاتها وأزماتها، تستشرس الرأسمالية أكثر. فمنذ أزمة ال2008 ونحن نرى الحكومات وهي تتخبّط في سياسات اقتصادية مجنونة، تقطع رعايتها عن الأكثر تهميشا، تسدّ ديون الشركات العملاقة، تسحق مدنا بكاملها وتبحث كمارد أعمى عن مخرج. لقد تعوّدنا على كوننا الجسد الذي يستمدّ منه هذا النظام قوته وحياته. لقد كنّا منذ البدء سوقا ويدا عاملة ومصادر ثروات لهذا النظام. وتقول الرفيقة والمناضلة والكاتبة أودري لورد “في مجتمع يكون فيه تعريف “الخير” اعتمادا على مفهوم الربح بدل الحاجة الإنسانية، يجب أن يكون هنالك دائما فريق من الناس –وعبر قمع ممأسس- يُنظر إليهم كفائض ويحتلّون المنزلة الأدنى لغير المؤنسن. في هذا المجتمع، هذا الفريق هو الملوّنون وأبناء العالم الثالث، العمّال، كبار السن والنساء.” اليوم نحن الفائض، نساء ورجالا وعمّالا وكلّ من فكّر خارج المفاهيم المعلّبة.
منذ 2008 إذا، والأمور تتضّح والشعوب تتحرّك. ونحن نشهد ليس ثورات فقط، بل طرح أسئلة ممنوعة ..وهذا ما يخيفهم. بالإضافة إلى فرضنا لحقيقة وجود البديل، يبدو طرحنا لأسئلة عن أشياء من المفترض أنهم أجابوا عليها وأقنعونا بأجوبتهم، هو التهديد الثاني لهم. “لم ندفع لنغطّي ديونكم؟ أين تذهب أموالنا؟ لم نعمل أكثر منكم ونتعب أكثر ونعيش تحت خط الفقر وأنتم تنعمون بالثروات؟ لم الله يحبّكم ولا يحبّنا؟…”هذا ما يجعل النظام مجنونا إلى هذه الدرجة، هذا ما يجعله يهجم كالمسعور علينا.
وفي اليوم الذي تظاهرنا فيه رفضا للسياسات الرأسمالية، فرضنا واقعا جديدا: إن وضوح فكرة هذه التظاهرة واتجاهها بالتحديد أي اتخاذها دون أي تردّد شكلا يساريا بحتا بشعارات ومواقف واضحة من حيث رفضها للمساومة على تغيير نظام ظالم، شكّلت استهدافا لقلب النظام،“فالوضوح هو الحقيقة“.
والواضح فيما جرى هو استعمال الشرطة كأداة عنفية للقمع، بيد المصارف. وقد ظهّر ذلك الصراع المطروح:فصراعنا ليس ضد الدولة كسلطة فقط، بل كتابع لطبقة بورجوازية عابرة للحدود. لقد لقّب المناضلون السود الشرطة ب“الخنازير“، لمعرفتهم أن هذا الجسم القمعي الذي يملك وحده حقّ استعمال القوة وضدّ من يريد، هو أداة سهلة بيد الدولة التي هي أصلا أداة للبورجوازية العنصرية آنذاك. الشرطة هنا ليست “حامية”المواطنة والمواطن و“حافظة” الأمن. هي ليست، كما يريدنا ليبراليو (عفوا للتصنيف، ولكن الأمور هي هكذا على الأرض) الحداثة والثقافة والخروج من الخيمة أن نظن، ليست ما يفصلنا عن العنف والفوضى وغياب المبادئ والقوانين. هي ليست المعيار للصح والخطأ، وهي ليست إذا من يجب أن أحني له رأسي فآكل الضربة من هراوة وأنا أشكره لتأديبه لي وهدايتي إلى الصراط المستقيم. لقد ضربوا “أدهم” ولم يجعلني ذلك أحبهم أكثر أو أتفهّم وجهة نظرهم أو أقتنع بأحقية ما يضربوننا من أجله. الشرطة هنا بكل بساطة موجودة لتنفيذ أوامر سلطة المال.
لقد ضربوا من ضربوا وذهبوا. ولكن الحقد الطبقي الذي كان يملؤني حين أتيت إلى هذه المظاهرة الآن، ازداد مرّات ومرّات. فهم ضربوا ما في القلب من ألوان وأخذوه معتقلا لديهم، موزّعي الشاي هؤلاء. وهم جعلوا ممّا كان فيّ من منطق يرفضهم، جعلوا منه جزء صغيرا ممّا أصبح فيّ الآن من شغف لرؤية هذا النظام ينهار وأدواته وعبيده والمدافعين عنه.
Publisher:
Section:
Category: