ما معني أن تكون لبنانياً أو مقيماً في لبنان في الوقت الراهن؟ وما المطلوب فعله كي نغّير امراً ما في هذا البلد، أمراً قد يضمن لنا ألاّ يستطيع النظام الطائفي عرقلة حياتنا كلما زاد طمع طائفة في السُلطة؟ أو أمر يستطيع أن يضمن لنا وجود رغبة حقيقية في اختبار إدارة أخرى لمواردنا أو مؤسساتنا؟ ما معنى أن تكون لبنانياً والهوية الوطنية التي نستند علىها قائمة على مجموعة خرافات تدعك تظن أنك أفضل من غيرك في المنطقة؟ هناك أسئلة محيرة بدأت في تونس وأصبحت أسئلة محددة هنا في لبنان بعد مصر، أسئلة لو أجبنا عنها، ربما تستطيع .أن تجعلنا أكثر إنسانيةً وأقل لبنانيةً
يتصل الناس في المنطقة اتصالاً جذرياً ببعضهم البعض وتتشابه حالهم وأحوالهم، ويستهلكون عادةً خطاباً حالماً يدعو الى الوحدة العربية ومقاومة المؤامرات التي تحاك ضدهم من كل حدب وصوب من أجل تفريقهم، وقد أصبح الخطاب هذا لمدة غير قصيرة ما يشبه الحكايات الشعبية يتوارثها الناس ويصبّرون بها أنفسهم، أو يكون الصلة العاطفية التي يبني معارض ما أو حزب ما خطابه السياسي عليها. في الشهر الأخير عاد الخطاب الرومنسي هذا مع الانتفاضات في تونس ومصر وعودته في أغلب الأحوال لا تعني صحته بقدر ما تعني قدرته على إبقاء صلة الرحم والانتماء التي تحس بها الشعوب المقموعة مع بعضها البعض، وإن ما يوحد الشعوب في المنطقة أولاً هو قمع أنظمتها قبل أن يكون أمراً آخر .
يبدو الخطاب الرومنسي هذا مفقوداً في لبنان منذ ٢٠٠٥ ونستطيع القول إنّ اغتيال الحريري يبدو وكأنه الحدث الذي لم يقطع صلة اللبنانين ببعضهم البعض فقط، بل قطعها مع المنطقة وأصبح لبنان كمن يعيش في قوقعة خاصة به وتتصل القوقعة هذه بالعالم الخارجي إما للإستنجاد أو الاشتكاء، وتحولت علاقة اللبنانين بجيرانهم الى علاقة أنظمة بأنظمة. فالفائض كيله من التدخل السوري في لبنان أصبح يتعطى مع الأفراد السوريين على أساس أنهم ممثلو النظام و بالتالي ممارسة العنف ضدهم والكف عن احترامهم كرد فعل مشروع على تدخل وتنكيل النظام السوري باللبنانين (انظروا إلى عدد الحوادث التي تصيب العمال السوريين يومياً) والفائض كيله من سياسات الولايات المتحدة الاميركية واسرئيل وتعديهما على لبنان ذهب في معاداته الى الالتفاف حول أنظمة معادية لهما ولكنها أنظمة قمعية وديكتاتورية في آنٍ معاً وغَضّ النظر عما ترتكبه هذه الأنظمة بشعوبها.
كما أضحت علاقة اللبناني مع نفسه علاقة مؤذية قائمة على التعصّب لخطابات فارغة في أساسها كونها ومنذ ظهورها لم تقم بتحسين أي أمر ملموس عند اللبنانين، إلاّ إذا قررنا اعتبار إشارات .السير وضبط السرعة هو إنجاز وليس أمراً متوقعاً من الإدارة الحاكمة.
إنّ فراغ الشارع اللبناني من تعاطف شعبي مع الحاصل في مصر وقبله تونس، يشير إلى أنّ اللبنانين سجناء طوائفهم ، وغياب تضامنهم مع الشعوب في المنطقة يعني أنّ هناك خوفاً من الأسئلة التي يطرحها هذا التضامن والتي تلّح على اللبنانين الآن أكثر من أي وقت، أسئلة تتعلق بديكتاتورية الفكرة أي الطائفة ، وتوريثها وإعادة إنتاجها لسُلطة لها على حساب القاعدة الأوسع.
قد صادرت الطوائف أدوات الثورة في لبنان، قد صادرت التظاهرات والاعتصامات والنقابات والحركات العمالية والإعلام والرياضة والفن، حتى المعارضة والحركات المطلبية الشعبية صادرتها، ولم يبقَ هناك ما هو على الحياد في البلد، وما هو حقيقي وليس استعراضٍاً اخر يستعمَل، فبعد مآثر مصر وتونس، تبدو ثورة الأرز وكأنها النسخة اللبنانية عن مفهوم إما سياسي أو ثقافي تم تحويره ليناسب لبنان ونوع النظام الحاكم فيه، فتبدو حين نتذكرها وكأنها مهزلة أراد بها اللبنانيون محو جدية وخطورة الخطاب الطائفي والمحرّض التي تخفيه “ثورة الارز” بإعلامها. هذا ونرى القوى التى ما انفكت تروج لنفسها على أنها قوى وطنية وحريصة كل الحرص على مصالح الشعب في الاسابيع الثلاثة من الأحداث في مصر وقد اختفت تماماً عن الشارع غافلةً عن أي نشاط للدعم و تضامن مع مصر إلاّ حين أصبح من الممكن مصادرة ما يجري في مصر كمكسب داخلي في مواجهة خطاب آخر وبالتالي تضليل الأهداف التي ما فتئ الشعب المصري يهتف في ميدان التحرير بها، لتصبح اداة تخفي خطاباً طائفياً (بغضّ النظر عما اذا كان تحت تحالف طائفي) آخر.
بعد مصادرة المساحات التي يمكن العمل من خلالها على تغيير النظام، يبٍقى الهامش للعمل السياسي ضيّقاً وصغيراً ويكاد لا يتسع لأكثر من المجموعات الشبابية والتي كانت وحدها أمام السفارة المصرية، تحاول قدر الإمكان رصّ صفوفها وخلق حالة تضامن مع المصريين الذين كانوا يشهدون ولادة جديدة لمصر. من هذا الهامش، تستطيع هذه المجموعات فرض نفسها وإحراج القوى “الوطنية” إذا استطاعت طرح الأسئلة الصحيحة وإيجاد الأجوبة الأصح، وهي أسئلة محرجة وتتعلق بتفاصيل حياتنا ونوعيتها وعلاقتنا كناشطين وناشطات واستعدادنا للمخاطرة بالرفاهية التي نعيش فيها مقارنةً بالآلاف الجائعين والفاقدين أغلب الامتيازات التي نتمتع بها والتي نسيء استخدامها في أغلب الأحيان. هذه الأسئلة تبدو لي ملحّة وعلينا العمل على طرحها، بدءاً من، ماذا يعني أن تكون علمانياً في دولة طائفية؟
Publisher:
Section:
Category: