سارة أبو غزال
يطيب أولاً أن أبدأ مقالتي بالتعبير عن فرحي الشديد بعودة إصدار صوت النسوة كفضاء نسوي إلكتروني للنشر وإنتاج المعرفة النسوية بعد غياب طويل.
كما يطيب لي أن أحاول الكتابة في وقت تندر فيه الكتابات النسوية الهدف التي تصبّ في مصلحة بناء حركة نسوية في بيروت، وأعني بذلك، ضرورة أن يكون هناك شعور بوجود حركة أو حالة ما، ووجود الرغبة في الانتماء إليها، ومن ثمّ الرغبة في العمل والإنتاج تنفيذاً لهذا الانتماء، فارتباط الإنتاج في بناء الحركة هو من بديهيات الأمور. أما إذا آلت الأمور إلى شعور بالانتماء إلى الحركة من دون أن يترافق ذلك مع إنتاج علني وخاص على حدٍ سواء، فنقع في مأزق. في الحقيقة، نقع في الحالة النسوية اللبنانية الحالية التي تبدو لي في جمود تام منذ سنتين تقريباً، وأعني بذلك الحراك غير المؤسساتي الذي يعتقد بجذرية خطابه مقارنة بما هو موجود. أودّ في هذه المقالة أن أذكر سبع عبر استخلصتها خلال السنتين الأخيرتين، على أن أعمل في المستقبل إلى تقديم كلّ عبرة بشكل منفصل ومفصّل.
استهلاك النسوية
يتراءى لي أن النقطة الأساسية في فهم الحركة النسوية الجديدة هي أنها تنطلق من التعريف والتماهي مع المفهوم نفسه، أي أن النسوية تحدّد نفسها من منطلق التماهي مع الاسم، وبالتالي، تصبح الحركة مجموع الفضاءات التي تعرّف عن نفسها بأنها نسوية الفكر وجزء من الحركة، من دون أن تكون هذه الحركة واعية لذاتها ومن دون أن يكون لهذا التماهي أو الانتماء أي إنتاج. في تعريف كهذا شيءٌ من الاستهلاك السريع الذي يأبى التعمّق أكثر بالمفهوم نفسه، فتصبح النسوية نوعاً من التعايش السطحي بين المفهوم نفسه وبين الفكر والإنتاج، فلا تنعكس التسمية على أرض الواقع ويُشهد للفضاءات الموجودة خلوّها من الأمان وعلاقات التضامن والرأفة، كما وقلّة الإنتاج العام الهادف إلى المقاومة والسلوك الحاضن في عملية التحويل. وفي تعدّد الاستهلاك للمفهوم نفسه، تبرز التحديات التي يفرضها تسطيح كهذا. إن الفكر النسوي الذي لا يقوم أوّلاً على البحث عن السلطة واستخداماتها في المعاش، وتحديداً في الأوجه المتعلقة بالجسد والجنسانية والسلطة وديناميتاها، يعيد إنتاج فضاء نسوي خالٍ من المادة النقدية المعرفية التي لا تُهيمن عليها الأكاديمية، والتي هي المادة الأساس في تشكيل الفكر النسوي. فتصبح الإنتاجات النسوية حتماً إنتاجات شكلية قادرة على التعايش مع نقيضها، مثل العسكرة، أو الفاشية والطغيان.
مقاومة نسوية
حصلت في السنوات الأخيرة تحوّلات من هذا النوع، وقد نتج عن استهلاك الفكر النسوي فضاءات متشعّبة قادرة على التعايش مع النقيض، ولا تتأصل فيها النقدية كأداة تتوجّه بطريقة أساسية إلى السلطة بهدف تفكيكها. غير أن في استهلاك الهوية النسوية أو تقشيرها ما يدلّ على قابلية للمقاومة في ظل الأبوية، وفي الوقت نفسه، على وجود منظومات داخلية (نفسية –شخصية) أبوية ومجتمعية لا تزال قادرة على الدفاع عن نفسها، وهي تدافع عن نفسها عن طريق الاستهلاك هذا. إذاً، يصبح استهلاك النسوية كهوية مثل تقاطع طرق، وفي اختيارنا لأي من الطرق المؤدّية، نسلك طريقاً إمّا من التحوّل، أو من الجمود. إن التحوّلات هذه بمثابة جولة منفردة في المعركة مع الأبوية، وهي جزء صغير في عملية الإبصار أو الولادة المتعلقة بالمقاومة النسوية في أي مجتمع، حالها حال أي عملية إبصار تخضع للتكيّف مع واقعها على افتراض أنها تريد أن تكون متأصّلة في مجتمعها، فتظلّ غير متغرّبة عنه بالمعنيين المجازي والفعلي. لذا، قد يتوجب علينا العمل على فرز الهوية النسوية المُستهلكة من تلك الهوية النقدية، والتي يتوجب عبرها دعم اللواتي يستهلكن النسوية كنوع من المقاومة واحتضانهنّ والعمل على استمرارهنّ في تأكيد الهوية النسوية والاستسلام إلى ما تطلبه من تغيير على المستويين الشخصي والسياسي.
حالة الجمود
للدقّة، هي ليست بحالة جامدة تماماً، بل خفوت واضح للمجموعات ذات الطابع الراديكالي والمخالف في طرائقه وتقديمه للإنتاج السياسي عن المؤسسات التي تعمل بشكل ممأسس في الحقل النسوي المستهلك والنقدي. إن التطرق إلى جمودها من دون المؤسسات يهدف إلى فهم المظاهر الأكثر هشاشةً في العمل النسوي، خصوصاً أن للمؤسسات طابعاً آخراً وتأثيراً مختلفاً في العمل النسوي.
إن خفوت المجموعات ذات الطابع الراديكالي جيد، وليس سيئاً كما يظن البعض. فخفوت كهذا كان ضرورياً لإعادة تموضع المجموعات في أماكنها وأخذ الوقت الكافي للنقد الذاتي. ففي فترة الخفوت هذا، حتى ولو كانت أسبابه ترتكز على سوء إدارة وغياب التضامن الاجتماعي بين المعنيات، كان من السهل لأي كان أن يرى ويعيد تقييم قيمة إنتاجه وحجمه. كما أفضى إلى مواجهة الواقع المرير الذي علّم الجميع درساً قاسياً في العمل السياسي ذات النسق المهرجاني العلني، أي العمل الذي يقوم على الاستعراض الذي في شدة المحن بيّن افتقار المجموعات فكرياً وسياسياً إلى الأدوات النسوية التي كان من شأنها ، في وضع صحي ومثالي، المساهمة في اجتياز المحن وتخزين العبر.
أعتقد أن زمن الجمود قد شارف على الانتهاء، أو لدي رغبة في أن يكون كذلك، وأن تستعيد المجموعات الراديكالية الناجية عافيتها للانخراط مجدداً في بناء الحركة النسوية في لبنان. فوقتنا الراهن يحمل في امتداده مخاطر شتى، وقد يبدو في الأفق أن العديد من المكاسب التي تحققت وتبدو لنا كمسلمات اليوم، معرّضة للخسارة. إنّ التحول من الجمود إلى الحراك قادر على أن يضرب مثل طائر الفنيق ويخلق نفسه من جديد، ومن رماده.
إعادة اكتشاف التضامن
إن التضامن مباشر، ولا يجدر به أن يتعرّض لتأويلات عدّة. وكما في كل الأفعال الأخرى، تتبيّن لنا جدواه في ردود الفعل التي ينتجها. ففعل التضامن كان هشاً وضعيفاً في السنوات الأخيرة، وقد تعرّض لتأويلات شتى، صدرت أغلبها من مواقع الامتيازات ضمن المجموعات/ الحركة النسوية الشابة التي أولّت التضامن على أنه العصبية بين أفراد الشلل الواحدة، والتي كان العصب فيها طبقياً بامتياز، وبدرجة ثانية أكاديمياً، أو هادفاً إلى التمكين الاكاديمي، وثالثة مبنياً على الهوية الجنسية.
في السنتين الأخيرتين، دلّ غياب التضامن بين أفراد المجموعة الواحدة وبين المجموعات الوليدة من الأخرى (سواء عبر امتداد متناغم، أي ولادة مجموعة من رحم الأخرى بطريقة واعية، أو من خلال ولادة مجموعات نقيضة لما هو موجود بناءً على التنافر في الخطاب والأدوات ) دلّ على أزمة في الوعي النسوي نفسه الذي يقوم على التضامن، وقد برز سوء تأويله (أي اعتبار العصبية بديلاً التضامن)، ولا يزال يبرز، من خلال المناكدات المراهقة وغير الناضجة بين الناشطات، واستعمال الوسائل نفسها في إلغاء الواحدة للأخرى بالتشهير والتنمّر من جهة، أو بإعادة توزيع العصبيات من خلال خلق خطاب مبني على التطهر ومنتج لأكباش فداء (أي رفض المسؤولية الجماعية).
لإعادة اكتشاف التضامن طريق سهلة، تبدأ بالتساؤل عمّا يحتاجه، وكيف يؤثر على الإنتاج النسوي والوعي النسوي، وهل ممارسته من خلال اختيار أشكاله المتعددة قادرة على خلق حالة ما تسمح للجميع بالتواجد ضمن كنف الحركة الواحدة المتعددة والمتنوعة؟ أم هو يسمح فقط لأفراد الشلة الواحدة أو الخطاب الواحد بالوجود؟ إن الدعوة لإعادة اكتشاف مفهوم التضامن هي من أجل معرفة الفرق بين النقد الذاتي والتطّهر من الماضي، وبين العصبية التي تقوم على خطاب ذاتي مختلق والتضامن الذي ينظر إلى الأخرى كمرآة وامتداد.
الأكاديمية: الغاية أو الوسيلة؟
للأكاديمية فضل كبير على الوعي النسوي نراه في الكتابات النسوية المرتبطة في تشكيل وعي للحركات النسوية الأفريقية-الاميريكية والتشكانية (أو المكسيكية– الأميركية)، وفي طبيعة الحال، هي تحضن الجامعيات والأكاديميات الكثيرات اللواتي استطعن طرح معرفة ضرورية متعلقة بالنسوية العربية وتشكيلها. كما شكّلت الأكاديمية حصراً المكان الأسلم لطرح الكثير من المواضيع الشائكة المرتبطة بالنسوية الشابة في بيروت، التي لم تكن الفضاءات الناشطة قادرة على احتضانها، وربما استوعبت الأكاديمية، وتستوعب، الكثيرات في السنتين الأخيرتين اللواتي يجدن حيزاً ضمن أجوائها، حيث كانت تضيق المساحات في فضاءات النسوية الراديكالية في بيروت. ولست أقول هذا لمديح الأكاديمية من دون وجه حق، بل كمقدمة، علّها تشفع لي ما أنا على صدد قوله.
إن النسوية ضمن أروقة الأكاديمية هي الممارسة الأسهل، ولا أقصد أبداً وحتماً التقليل من شأن الأكاديميات أو عملهنّ، بل أحاول إبراز فكرة قلّما تذكر، هي أن ممارسة النسوية في الأكاديمية والعمل من خلالها على الطرح النسوي والمجال العام، لا يُحاط به تلك الصعوبات ولا يتطلب التبريرات التي تطال النساء اللواتي يندفعن من سؤال شخصي إلى المجال العام. في السنتين الأخيرتين، أعادت الأكاديمية بشكل كثيف سؤالاً طُرح في السنوات العشر الأخيرة من صعود الحركات النسوية في المنطقة العربية، وجّه نقداً وإن سلساً عن مأسسة الحركة النسوية. لذا يتهيأ لي وجوب إعادة السؤال بطريقة معاكسة: لدى تناول ازدياد الميل الأكاديمي للعمل النسوي -ولا أعني بالضرورة نقده بل التفكير فيه-، هل تمّ التساؤل عن أسباب تفضيل الكثيرات العمل على الطرح النسوي من منطلق أكاديمي؟
وفي فضاء نسوي قليل العدد أصلاً، كيف يمكن أن يتحوّل المرء من ناشط إلى أكاديمي من دون أن تؤثّر الصدمات والأخطاء والتجارب التي عيشت في المعرفة المنتجة، وهل ستكون معرفة عادلة؟
وما الذي يسبّب هذا التحوّل في الحركة النسوية التي تشكّل للأكاديميين الموضوع الأساس؟ من هنا، هل الموضوع الأكاديمي النسوي اللبناني هو موضوع ذاتي (أنوي) بامتياز؟
نعم، ثمّة ارتباط وثيق بين الأكاديمية والحركات السياسية بشكل عام، غير أني مهتمّة بمسألة هجرة الناشطات من الحركة إلى الاكاديمية خلال فترة الجمود هذه، ويعن في رأسي سؤال: هل الأكاديمية هي الغاية في الوعي النسوي أم وسيلة؟ هل لهجرة الناشطات إلى اروقتها حالة علينا التفكير فيها والاستفادة منها؟ وهل هناك حركة بين المأسسة والأكدمة قادرة على دعم فضاء سياسي عادل بامتياز؟
آفة حركتنا النسيان
انتهيت للتو من قراءة "أولاد حارتنا"، ربما للمرة الثالثة، وفي كل مرّة، وفقاً لما أراده نجيب محفوظ، أراني في تعجبٍ تام من أولاد الحارة الذين لا يجيدون أكثر من نسيان كل محاولات جبل ورفاعة وقاسم ورفعة لجعل الحارة مكاناً يسوده العدل والتآخي. وقد رافقتني هذه الرواية منذ سنين طويلة في رحلة التفكير في السؤال الأبدي الذي يرافق كلّ أشكال أزمات الجماعة. تماماً كالرواية، لدي اعتقاد بأن حركتنا النسوية هي حارة أيضاً، وشاغروها كأولاد الحارة آفتهم النسيان.
لسنوات مضت كانت صديقتي ورفيقة دربي تعمل على أطروحتها التي هدفت إلى إعادة قراءة ما يمكن أن يكون بدايات حركة نسوية. بمعنى آخر، انصبّ عملها على إيجاد خط يمكن تتّبعه تاريخياً وبشكل دائري لفهم حراكات النساء في لبنان، ولبناء جسر يفسّر الماضي تمهيداً للحاضر. إن حاضرنا كحارة نسوية شابة تناست الكثير من تاريخها في الخطاب السياسي. وجميعنا وقع في فخ التجديد، فطرحنا أنفسنا كنقطة تحوّل تاريخية جديدة، وفي ظهورنا حسبنا أن وجودنا له من الفرادة والغرابة بحيث كانت أحوالنا في الحقيقية تشبه أحوال الكثيرات من اللواتي سبقننا في خوض معارك ترتبط في الوجود النسائي/ النسوي في المجال العام، لكننا لم نستفد من أحوالهن قط وبالشكل المطلوب. إن آفة النسيان التي رافقت ظهورنا جعلتنا في هشاشة وعرضة للتطاير، فلم ننتمي إلى تاريخ نحن نتاجه ولم ننتمي إلى المستقبل لأننا كنّا عرضة للتغرّب، فلم نجد لنا حيزاً بين القوى السياسية المتنوعة، فلطالما كنّا في موضع شك من حيث الأجندة التي نحملها.
التغلب على النسيان يتطلب انضباطاً جدياً في دراسة التاريخ الموجود والمعمّم، كما في تأويله ليصبح خاصاً بنا. ومن هذا الانضباط، تولد عملية التذكر التي في أساسها هي إدراك شديد بالمجتمع والمنطقة التي نعيش فيها، وتخلق خطاباً واعياً لنفسه وعلى ثقة بماهيته، كما تولد تماهياً ضرورياً مع أنفسنا والوعي النسوي منذ بوادر تشكيله من القرن الماضي حتى اليوم.
في قلب الأمور جوهرها
الوقت كافٍ وكفيل لشفاء كل تلك الجراحات، كما هو كفيل لتوضيح بعض الأمور والأفكار، وقد آن أوان طلوع الفجر أو خيط منه في حياتنا النسوية في البلاد، وحان لوقت لتحمّل مسؤوليات كبرى لمواجهة ما يحيط بنا. نعيش وسط ترف بالنسبة لما يحيط بنا، ويُقال إن الأمور ستأخذ منعطفاً جدياً سيفقدنا هذا الترف. وسواء كانت هذه الأقوال مبنيّة على معرفة مطَلعة أم على مخاوف، يعلّمنا التاريخ أن الذكورية سريعة العودة إلى الحروب والعنف. ففي كلتا الحالتين، لا عذر لنا لعدم بناء ما يمكن أن يجعل لنا من المستقبل زمناً آمناً.
أود ان أعتبر هذه المقالة بذرة أزرعها لبدء التفكير جدياً في ما يمكن عمله للملمة ما يمكن التقاطه وتجميع ما بمكن تجميعه، والبدء بخطوة نحو بناء تلك الحركة النموذجية التي لطالما حلمنا بها، وهي قابلة للتحقيق. أنظر الى منطقتنا وأرى نسويات في ظروف أحلك وأقسى، غير أنهن قادرات على ممارسة المستحيل وبناء فضاءات لهن على تنوّعهن، كما استطعن خلق جسر بينهن وبين النسويات الأقدم عمراَ وتجربة. كل هذا يدفعني إلى الايمان بضرورة أخذ المخاطرة لفتح حوار من دون أن يلدغ أحد مرّتين.
قد عاصرنا على الرغم من يفاعة تجربتنا وهشاشتنا، تحوّلات جذرية في بلدنا ومنطقتنا، وقد حرقنا من خلال أخطائنا الأرض التي وقفنا عليها، وقد أدهشنا العالم (مجازياً) في قدرتنا على تحطيم الهياكل بلمح البصر والتشرذم في قاع هذا المجتمع القاسي، وأنكرنا بعضنا البعض مراراً حتى صاح الديك ليالياً ونهارات بكاملها. قد لا تستطيع الكثيرات منّا العمل مع الأخريات وليس مطلوباً أن يفعلن ذلك، وقد لا تستطيع الكثيرات منّا التغلّب على الماضي وهذا ليس مطلوباً أيضا. الضروري الآن هو التعلم من الماضي المشترك والقبول بملكيته العامة.
Publisher:
Section:
Category: