مايا العمّار
الجميل في القصّة أن نظّارات الـFendi لم تحمِها من الملاحقة القانونية. المؤلم في القصة أنّها سِيقت إلى السجن خلال الدقائق التي كانت تتحضّر فيها لأن تطير.
كانت طائرتها تلوّح لها من قريب حين أخذ رجل الأمن في مطار بيروت يرمقها بنظرات ظنّانة استفزّه أنها لم تهزّ نظّاراتها البرّاقة. أمّا هي، فاستفزّها أنه يؤخّرها، بل ويمتلك الوقاحة الكافية ليسألها: "شو عاملة"؟ فأجابت الغيمة الصديقة التي ارتسمت فوق رأسها: "لا طاقة لديّ الآن. بالله عليكم أطلقوا سراحي. هل من فتاة أخرى تتطوّع فنتبادل الأدوار؟ أمشي أنا وتسايره هي مكاني؟ أعدها بأن أردّ لها الجميل، هنا، أو في المطهر. نحسم الأمر لاحقاً".
ثمّ يعيد عنصر الأمن سؤاله، "شو عاملة"؟ حسناً، سأمحو غيمتي وأُجيب: "رايحة، عندي عرس بـ أبو ظبي". "لك مش عم بمزح معك، شو عاملة؟!" عند هذه النقطة، اتّخذت معركة المغازلة السمجة المفترضة منحًى مختلفاً إذ تأكّد لصديقتنا أن عنصر الأمن العام في غاية من الجديّة. فقد وصلت نشرة صاحبة الـ Fendi، ومعها أمر التكبيل. "أطلِقوا سراحي". طلبٌ لم تكن تعلم أنه سيرافقها لأسابيع طويلة قضتها مرتحلةً بين ثلاثة أقفاص، ومستشفى. كان لا بد من انهيار لتستحقّ الصورة شرف المَشهدة.
ما حدث مع "ميشا" العشرينية يتكرّر يوميّاً مع الكثيرين. تطفو قصصهم بين الفينة والأخرى إلى العلن لتذكّر بالعنف الحاكم عدالتنا، من أنعمه إلى أثخنه. لكن لميشا التي خرجت حديثاً إلى الحريّة نظرة فريدة إلى حالة التوقيف التي عاشتها من الداخل، فتروي لنا بعضاً ممّا اختبرته بنفسها وما رأته في وجوه رفيقاتها الجديدات. لا تريد أن تغوص في طبيعة مذكّرة التوقيف التي لم يصلها التبليغ بشأنها أصلاً بسبب خطأ في العنوان، كما ولن تتطرّق إلى مسبّباتها الباطلة، وفقاً لروايتها. عوضاً عن ذلك، ستخطفنا لبعض الوقت إلى ما يحدث يومياً في تلك الأقفاص الضيّقة.
"تجلسين مع أربع نساء في نظارة الأربعة أمتار. تغطّي الأرض فرشٌ ملطّخة ونتنة لا تفهمين لماذا وجدتِ نفسك مرمية عليها فجأة، مع "الخطأة". بالتأكيد، لم أكن على علم بالمادة 86 من مرسوم تنظيم السجون، ولم أكن أعرف بوجود مرسوم أصلاً. الـ 86 تقول إنّ "فرشة السجين يجب أن تشتمل على حصيرة أو بساط وفراش من قش ّومخدّة وشرشف وغطاء ويُحشى فراش القش والمخّدة بـ 15 كلغ من القش أو العشب اليابس الذي يُطهّر كل شهر". قشّ وعشب يابس. تخالين نفسك في حظيرة. تشتميّن رائحة اختلاط البول، ولا نافذة سوى الفراغات بين القبضان التي تقودك إلى رائحة أخرى منبعثة من إبط الدركي المناوب. ولينتحس حظّكِ أكثر، تُسجنين في أيام عطلةٍ أعادها الله بالخير على الجميع، إلّاكِ، وعطّل بها الجميع من أعمالهم، ومنكِ. العدالة في عطلة: إرداف خلفي فظيع ضفناه إلى سجلّ الإردافات الآخذ بالاتّساع.
لا تأكلين. تقرّرين أن تقدّمي ما أوصلته لكِ زائرة عزيزة من طعام، بما أنك من المحظوظات، إلى العاملة المهاجرة التي تشارككِ الغرفة الفاخرة بعدما لفظها فخرُ بيتٍ ربُّه مغتصِب. يخفّ صوت تذمّركِ، خجلاً من أنين العاملة المهاجرة الثانية التي تجالسكِ وأحداً لا يسأل عنها، أو يجيد لغتها، أو يفهم منها شيئاً. أخبرتُها أنني قبل أن آتي إلى هنا، زرتُ سجنها. أي سجن الجسر. أقصد سجن الأمن العام. الذي هو. المهمّ، قادوني من المطار إلى سجن الأمن العام، ومن حسن حظّي أنّ الـFendi كان لا يزال لاطئاً بوجهي مسهّلاً الوساطة لنقلي بسرعة من تحت أرض "العدليّة"، المُعطّلة بكسر الطاء وفتحها، إلى طابق أرضي على مقربة منها. أمّا العاملات اللواتي التقيتهنّ في الأقفاص الثلاثة، فكنّ يؤمرن بتنظيف مكان احتجازنا وكأنّ قدر مسح أوساخنا يلاحقهنّ حتى إلى وراء القضبان.
كنتُ أضحك كثيراً. ففي الصعاب تضحكين كثيراً لشدّة سِرياليّة المشهد الذي يتوسّط انتباهك على مدى الأربع وعشرين ساعة. تجتاح رأسك صورٌ لا يجمعها شيء. يتنزّه خيالك بين الوظيفة، الطعام، الصحن اللاقط، الأصدقاء، التوتّر، المزيد من التوتّر، والصرصار الآتي لا محال. تستعيدين مشهداً من "البرتقالي هو الأسوَد الجديد" وتتذكّرين أنّك في أحسن أحوالك لأنكِ على الأقلّ اخترتِ تجويع نفسك بنفسك، وأيّ من النزيلات لم تصنع من حزنك طبقاً انتقامياً من ماضٍ لا نجاة منه.
بعد العطلة، أعادها الله بالخير على الجميع، حان موعد جلسات الاستماع أمام القاضي. أقصد القاضية. كانت الريْسة لتستمع إليّ، لو أنني تكلّمت. وقفت أمامها، ثلاث مرّات، من دون أن أتكلّم. ظننتُ أنها كامرأة، ستفهمني أكثر. خفتُ من الأمل، فآثرتُ الصمت. "إن تكلّمت لم تمتنع كآبتي، وإن سكتّ فماذا يذهب عنّي"؟. يا صبرك يا أيّوب. حان موعد الاستماع ومعه موعد الكلام، وأنا في حيرة تبكّيني. "تُعطون في تلك الساعة ما تتكلّمون به، لأن لستم أنتم المتكلّمين، بل الروح الذي يتكلّم فيكم". أمّا أنا، فخرستُ. صودف في تلك الساعة أن تكون الروح في عطلة، كما العدالة قبل ساعات. عدتُ إلى زنزانتي، منكسرة القلب، إنما رافعةً رأسي الذي تمسّكت به عربوناً لبقائي. بعد حوالي الأسبوعين من الوعود اليوميّة بتوديع الأقفاص، جاءت وجبة الماكدونالدز لتبشّرني باندثار الوعود نتيجة تعقيدات في عقد الصفقة المطلوبة على حساب حريّتي.
"يمين شمال. يمين شمال. بوف".
السكّري أوقعني. والسكّري أنقذني. سمح لي ببضعة أيام من الرفاهية في مستشفى الموقوفين، على الرغم من الـ 300 دولار أميركي لقاء ليلة التوقيف في المستشفى، مصحوبة بتكاليف الفحوصات الطبية المطلوبة. غدوتُ سائحةً في المستشفى الذي بدا لي منتجعاً راقياً. وفي عيون الممرّضين والممرّضات جملة عنيدة لم تملّ نظراتهم من تصويبها نحوي: "مش شكل محابيس إنتي". ربّما لأن ما من آثار فحم ودخان على وجهي.
بعد نهارات العزّ القليلة، عدتُ إلى شكل المسجونة وسكنتُ جسمها النحيل وتسهّده لأيام إضافية. يعزون سبب إبقائي محبوسة إلى تأخّرٍ في المعاملات. غير أنني شبه متأكّدة من أنهم أعادوني إلى هناك لكي أرى ما رأيته في اليوم الأخير، يومَ ودّعتُ وجهاً يشبه وجه العاملة المهاجرة المغتصبة التي رحّبت بي في اليوم الأوّل. حاولتُ جاهدةً النظر في عينَيْ الوجه الجديد، لكنّ بقعاً بنفسجية حالت دون تحقّق المرتجى.
ضربوها حتّى بزوغ قوس القزح على وجهها. "لعلّها آتية من عند العسكر"، همست إحداهنّ في أذني. وأردفت، "قد تكون زوجة إرهابي أو إحدى اللواتي تطالب جبهة النصرة بالإفراج عنهنّ". كان لا بدّ من أن أقضي الأيام الأخيرة لتكتمل الصورة وتستحق شرف المشهدَة: مهاجرة منبوذة، مُغتصَبة هاربة، جبهة النصرة، وأنا، في غرفة واحدة. ملامح وجوه كانت وافية لإيصالي إلى استنتاج واحد سمحتُ لنفسي بتعميمه على أعداد كثيرة ممّن هم مثلي في سجون أخرى، وتحديداً في سجون النساء الأربعة:
جمعينا بريئات، ولو عثرنا.
*القصّة مبنيّة على وقائع حقيقية أخبرتها الراوية لكاتبة النصّ
Publisher:
Section:
Category: