من يخاف التوثيق؟
تحليل لنشر وقائع التحرّش الجنسي وردود الفعل عليها
عقب تصاعد الاحتجاج والتظاهر ضد النظام اللبناني وفساده ورموزه، تشكّل "بلوك نسوي"، وهو تجمّع لمنظّمات ومجموعات وناشطات نسويّات، انطلق من مبدأ التضامن النسوي وضرورة توفير مساحة آمنة للنساء والنسويّات للتعبير عن آرائهن وأصواتهن، والتأكيد أن التغيير الحقّ لا يقوم إلا على مبادئ المساواة والعدالة الجندرية. فمنذ الأزل والنساء يسمعن تلك الوعود المتكرّرة بتدابير تضمن لهنّ المساواة والتناصف في التمثيل السياسي وصنع القرار وسياسات فعّالة تؤمّن لهنّ الحماية في المجالات العامة والخاصة التي لم تتبلور وتُنفّذ حتّى اليوم. وفي حين كان ضرورياً لنا كنسويّات تأكيد مشاركة النساء في التحرّكات وأهميّتها، وهي مشارَكة حاصِلة أصلاً، كان لا بدّ من العمل أيضاً على جعل مطالبنا النسويّة واضحة الشعار والهدف وغير قابلة للمساومة التي غالباً ما تُطلب منّا؛ فكان الشعار الذي اخترناه "النظام الأبوي قاتل" لأنه بالفعل قاتل، جسدياً ومعنوياً ونفسياً.
منذ 22 آب 2015 ونحن نطمح إلى بناء حراك قادر على الاستمرار. حراك قادر على استيعاب جميع مريديه، حتى أولئك الصامتين والقاطنين في سجون طوائفهم منتظرين الحرية بألم وتوق. ومنذ انطلاق الحراك، وجميع المنخرطين/ات فيه يعيشون تجربة حقيقية في صناعة التغيير ويختبرون القدرة على الإيمان بما كنّا نظنّ أنه مستحيل وغير قابل للتحقيق. ونحن كنسويات، وجدنا أنفسنا في نقاش مستمرّ حول مروحة من المسائل، ومنها ما يحصل من تهميش للنساء ضمن المجموعات المنخرطة في الحراك، أو رفع بعض المتظاهرين لشعارات ذكورية وأبوية، أو استعمال النساء ومشاركتهنّ في الحراك من أجل تحقيق مكاسب سياسية معيّنة كالحصول على مصداقيّة في الشكل لا المضمون... وفي خضمّ النقاشات ضمن اجتماعات البلوك النسوي، ظهر التحرّش بالنساء خلال التظاهرات كأحد أبرز العنواين التي توقّفنا عندها، وأضحى المسألة الأساس بالنسبة إلينا نتيجة عدد من المشاهدات والشهادات التي حصلنا عليها والتي أدّت إلى أن نباشر في عمليّة التوثيق، ابتداءً بما حدث في تظاهرة الأحد 20 أيلول 2015. وهي عمليّة أردنا منها التأكيد أنّ الحراك ليس مكاناً آمناً للعديد من النساء، والتشديد على حقّ الناجيات في التكلّم عن وقائع التحرّش انطلاقاً من إيماننا بأنّ "الحراك إن لم يكن آمناً لي فهو ليس بحراكي".
وبعد توثيقنا* لوقائع تحرّش ضدّ متظاهرات، طالعتنا ردود فعل عديدة مألوفة بمضمونها ومتجدّدة بامتدادها، لم ولن تفاجئنا ولن تجرّنا إلى نقاش غير مجدٍ، خصوصاً أن أصحاب ردود الفعل وأفكارهم وخطابهم يقع في صلب العقليّة الذكورية التي نعرفها خير معرفة ونواجهها كل يوم ونعمل بأصواتنا على القضاء عليها، مع وعينا الكامل لأهميّة تحليل هذه الردود من أجل تعزيز مسيرتنا بالدروس والمعرفة والتجارب. في جردة سريعة، أمكن جمع أنواع ردود الفعل على شهادات الناجيات من التحرّش، تحت العناوين التالية، وهي ردود نضعها في خانة التكتيكات المعتادة الهادفة إلى تحجيم أصوات النساء وقضاياهنّ:
• الاستخدام الإعلامي لشهادات التحرّش للاستغلال السياسي
في 29 أيلول 2015، قام موقع الـMTV باستعمال شهادات الناجيات ونشر ثلاث منها، ومن ثمّ نقلَها عن الـMTV موقع التيار tayyar.org ، بالمضمون نفسه، وتحت العنوان نفسه: "فتيات يعترفن: هكذا تحرّشوا بنا جنسيّاً في تظاهرات الحراك المدني". لا ندري ما كان يجول في خاطر محرّري تلفزيون الـMTV وموقع التيار في استعمالهم "لوقائع التحرّش ضد النساء"، ضدّ الحراك. ولا ندري انطلاقاً من أي مبدأ تمّ إعادة استخدام هذه الشهادات، غير أننا ننظر إلى استعمال الوقائع وتحريف العنوان الأصلي للموضوع كتعبير واضح القوّة والبلاغة عن غياب أي أخلاقيات مهنية أولاً، وثانياً كدليل على ارتكاز الإعلام في بلادنا على ترويج ثقافة التحرّش والاغتصاب من خلال المعالجة الفضائحية والمبنيّة على الإثارة والتحريف. فالناجيات لم "يعترفن"، لأن التحرّش الذي تعرّضن له لم يكن سرّاً أردن إخفاءه، أو جرماً ارتكبنه، بل قمن بتوثيق ما تعرّضن له إيماناً منهنّ بحريتهنّ في فضح أي انتهاك يتعرّضن له. إلى ذلك، افترض موقع الـMTV ومعه موقع التيار أنّ من قام بالتحرّش هم "ما يُصطلح على تسميتهم بالمندسّين"، كما ذُكِر في مقدّمة الموضوع. ونشير إلى أنه تمّ حذف، من الموقِعين الإخباريّيَن، الشهادة الرابعة التي نشرها موقع "صوت النسوة"، وهي شهادة تتعلّق بتحرّش تعرّضت له متظاهرة من قبل رجل أمن. إنّ هذه الطريقة بالتوصيف والحذف تثبت أنّ نقل الشهادات لم يكن هدفه دعم النساء وإدانة ما تعرّضن له بقدر ما كان الاستغلال السياسي للوقائع على حساب أجساد النساء وسلامتهنّ من أجل تصفية حسابات ومصالح وإحراز أهداف طبقاً لمنطق ذكوري. أمّا مقارنة ما تعرّضت له الناجيات مع حوادث التحرّش في مصر، فهو من اختلاق موقع الـMTV نفسه، نضعه أيضاَ في خانة الإثارة والتهويل، مع العلم أنّنا لم نعبّر عنه أو نربط الأمور على هذا النحو.
• التشكيك بمصداقية النساء
من المؤسف أن يجري تضييع طاقة النساء ووقتهنّ في الدفاع عن أنفسهنّ ومصداقيتهن، وفي تثقيف بعض الرجال، حتى الأصدقاء المقرّبين، عن التحرّش وجديّته وأثره على النساء. وفي هذا الإطار، لا بدّ من شرح أهمية التوثيق لاعتداء كهذا. فالتوثيق ممارسة تقوم على تسجيل قصص النساء بموافقتهنّ، تكمن أهميتها في تسجيل/كتابة حالات يتمّ السكوت عنها إمّا بسبب الخوف من "العار"، أو لأنها تُعتبر مسألة ثانوية. وتتطلّب إعادة سرد حوادث التحرّش شجاعة كبيرة من النساء وشجاعة أكبر للقبول بنشرها. إلا أن جهود التوثيق وتشجيع النساء على عدم السكوت لا يزال يُقابل بخطاب ذكوري متهكّم ومشكّك لا يقلّ سوءاً عن الأفعال العنفية ذاتها. ويجدر التذكير بأن التحرّش الجنسي سلوك شائع قد يحصل في أي زمان ومكان، وهو يقوم على استباحة مساحة النساء وأجسادهن دون أي أعتبار. لكنّ انتشار التحرّش الجنسي بأشكال مختلفة والتطبيع المجتمعي معه يجعل منه سلوكاً من الصعب على بعضهم الاعتراف بوجوده وتسميته أولاً، وإدانته ثانياً، خاصّة في ظلّ رواج الثقافة الأبوية، تلك الثقافة التي لا تكتفي بالسماح بممارسة التحرّش والتسامح معه، بل تضع الحمل في مجمل الأحوال على عاتق النساء. فكما رأينا، إذا سكتت النساء لا يُرحمن، وإذا تكلّمن لا يُرحمن، وإذا وثّقن لا يُرحمن.
أيضاً، يأخذ التشكيك بالمصداقية شكل الدعوة الدائمة إلى إجراء تحقيقات بالوقائع. طبعاً، أحياناً كثيرة تكون النية سليمة ومفهومة في هذه المقاربة، لكن نعود ونذكّر أنّ الواقع الذي يجعل الكثير من الناجيات يتلافين الكلام عن حوادث التحرّش، يرتبط بالأحكام الأخلاقية الأبوية التي تصدر عليهنّ من الناس (مثلما رأينا خلال هذه الفترة)، وبصعوبة إجراء تحقيق في ظلّ عدم اعتراف العديد بأن التحرش موجود أصلاً، وبالاستمرار بنفيه أو تبريره لدى حدوثه، ولوم المرأة على حدوثه، أو السخرية منها، أو اتّهامها "بالمبالغة" مثلاً. وبالطبع يُطرح أيضاً في هذا السياق السؤال عن التعاطي القانوني والأمني مع التحرّش في ظل عدم تجريمه... ولا داعي للاستفاضة في الشرح هنا.
• الانتقائية في دعم قضايا النساء
رأينا كيف توالت ردود فعل متهكّمة حيال شهادات الناجيات، وفي أحيان كثير عن أفراد يدّعون دعم قضايا تتعلّق بحقوق النساء، ومنها دعم حماية النساء من العنف الأسري مثلاً. فما الفرق بين شهادات النساء الناجيات من العنف الأسري اللواتي روين قصصهنّ لوسائل إعلام وشهادات النساء الناجيات من التحرّش؟ أم أنه ثمة عنف مُدان وآخر مشكّك به لأنه يشوّه صورة الحراك "المدني" الذي يغار عليه بعض الناشطين الذكور؟ أو ربّما لأن الشهادات تفضح ممارساتهم الشخصية التي لا يعترفون بأنّها تشكّل تحرّشاً، فانزعجوا منها؟ وقد رأينا كيف صدرت تعليقات من صحافيين وناشطين كانت أيضاً مبنيّة على التشكيك في الشهادات التي تم توثيقها حرفياً مع الناجيات مراعاةً لأصول التوثيق، الأمر الذي حوّل الشهادات إلى موضوع فتوى من أفراد نصّبوا أنفسهم حكّاماً على مصداقية الناجيات وشهاداتهنّ التي نحارب يومياً لإبرازها. لا بدّ من الإشارة إذاً إلى أنّ الانتقائية في دعم قضايا النساء هي استراتيجية مُعتمدة للتملّص من التخلّي عن الامتيازات، وعادةً ما يدعم الأفراد قضية نسائية معيّنة دون غيرها للاستفادة منها واستثمارها في بناء شعبية لا تقوم إلا على الفردية والنجوميّة. والدعم المشروط هذا هو من أسوأ ما يمكن القيام به تجاه القضايا النسائية لأنه يضع الفرد في مركز سلطة يسمح له في انتقاء ما هو صالح وما هو غير صالح بحسب تقديره، رغم أن المطلوب منه هو التخلّي عن مصالحه الشخصية البحتة وامتيازه قليلاً وفتح مساحة للنساء للتعبير عن ما يرينه مناسباً لهن.
في الختام، لا يسعنا سوى التذكير بأن ردود الأفعال الكثيرة القديمة-الجديدة على تنوّعها الذي تطرّقنا سريعاً إليه لم تصدمنا كثيراً. إلا أن سؤالاً بسيطاً تبادر على إثرها إلى أذهاننا: من يخاف التوثيق؟ فليراجع نفسه.
#مستمرات
Publisher:
Section:
Category: