لماذا تخليتي عنّا، نوال السعداوي؟

image courtsey of SAN 2015

نوال السعداوي، أنتِ عرَابتي التي كانت تخاطبني منذ طفولتي ولو كره الجميع. رافقتني دائما صرختي في أذني وفي أذن الجميع أن النساء لسن عورة. أنني من حقي مساءلة الجميع عن حقوقي وحقوق المهمشين. أنه بإمكاني أن أرفض الظلم وأدافع عن وجودي ووجود هؤلاء الذين لا يتبعون القطيع. أنه من حقي أن أحلل النص الديني، أنه بإمكاني رفضه، أنه بإمكاني رفض قوانين الدين والمجتمع التي تحرمني حقوقي في الوجود. أن حقوق الإنسان ليست تلك التي شرَعها الدين والمجتمع بكل آفاته، وأن هناك أبعاد أخرى ما وراء هذه الغياهب الفكرية التي كانت تحاوطني من كل اتجاه. لقد رافقتني بأفكارك إلى حين، إلى أن صار ذلك الصوت المرافق لي يخفت تدريجيا، حتى تخليتِ عني.

لقد التقيت دكتورة نوال للمرة الأولى على التلفاز عندما كان عمري إثنى عشرة عام، كنت أشاهد قناة الجزيرة مع أبي، لأشاهد هذه السيدة التي لا تضع مساحيق تجميل أو تواري شعرها الرمادي بالصبغة- كما تفعل كل النساء على التلفاز—  تتحدث بجدية مطلقة غير مكترثة، بنبرة حادة يملأها التصميم، والمذيع يحاول جعلها تبدوا كائنا فضائيا قد أتى من مجرَة أخرى، فهي تتمتم بكلام غير مفهوم من وجهة نظره، وما على المذيع أو المتفرجين غير القهقهة والتسخيف والرَفض والسخرية. هكذا كان يفعل أبي أيضًا. لم يكن أبي ليطيق حديث نوال السعداوي، ولكنه طالما كان يتابعها على التلفاز ليسخر منها، وخاصة في وجودي، وكأنه يبث الي بعضًا من أفكاره الذكورية بقوة ضغط الأنداد، أو تلك النصوص الدينية التي طالما رددها ليشوَه صورة السعداوي أمامي، فهي تلك المرأة الغير محجَبة التي تهاجم الدين والأخلاق الأعراف لأنها منحرفة خُلقيا.

 وكما جرت العادة، فقد حاول أبي أن يغيَر القناة كلما أصبح الكلام جدياً لدرجة أني أصبحت منصتة فلا أنتبه أو أتفاعل مع قهقهته أو ما يقول. وفي هذا الوقت، فقد كان يشتم السعداوي: يصفها بالعاهرة، ثم يتعاطف معها ويقول أنها قد تمَ تعذيبها وأن دور سعاد حسني من فيلم الكرنك مستوحى من قصة السعداوي، وأنها إمرأة فقدت عقلها، وأنه قد أتأذى خلًقيا من الإستماع إلى كلامها لأنه مخالف للفطرة والأخلاق والدين الإسلامي الحنيف.

كنت أستمع إلى حديث هذه المرأة المنبوذة من جميع أفراد عائلتي، حتى أمي التي كانت تمتدحها سراً وتشتمها جهراً، وهي تقول إن العنف ضد المرأة نابع من الفكر "الذكوري"، وأن الحجاب ليس فرضاً، وأن هناك ما هو أهم من ملبس المرأة ومظهرها، وأن الجميع يحاول التحكَم فيما تلبسه وتفعله المرأة طوال الوقت، وأن النساء مهدورة حقوقهن، وأن الختان شيء مرفوض وعادة جاهلية وأن تعليم المرأة هو أساس نهوض المجتمعات.  لم أجد شيئاً عجيباً في قول نوال السعداوي، بل ظننت أنه منطقياً جداً، وصدمتُ بردَ فعل أفراد عائلتي محاولين تبرير العنف ضد المرأة والإصرار على تحجيمها وإحتقارها ورفض وجودها وجعل ذلك مخالف للفطرة.

ومازلت أتذكَر علامات الرفض والحيرة على وجه أمي عندما تحدثت السعداوي عن الختان على أحد البرامج الفضائية. أمي كانت طبيبة أيضًا، ولكنها كانت تبرر الختان، وتقول إن عائلتها قد قررت ختانها لغرض حمايتها من سوء نفسها. وعندما كنت أسأل أمي عن الختان كانت تقول إنها لم تحبَه قط، لكنه واجب. ومن حسن حظي، فقد نشأت بعيداً عن عائلة أبي وأمي في مصر، في إحدى دول الخليج حيث لم يكن ختان المرأة شيئاَ يذكر، فلا نساء تختتن إلا قليلا، وخاصة بنات الجاليات المصرية والسودانية، ولكنه كان نهجاَ متبعاَ أكثر مع الذكور. كنت أشاهد الحلقات تستضيف السعداوي خلسة وقت الإعادة، وكأنني أشاهد أفلاما جنسية.

ولكني كنت أحاول تفنيد ما قالته أيضًا، فكنت أرفضه بشدة وكانت علاَتي هي تلك التي كان يقولها أبي بشكل دائم عنها. فأنا لم أرد أن أكون ضد الفطرة، فلقد كنت تلك الطالبة المجتهدة الملتزمة الحافظة للقرآن والحديث والقارئة لتفاسير إبن كثير وإبن سيرين والطبري. وشعرت أنَه من المستحيل أن أخرج عن هذا التعريف الذي إكتسبته ليرضى عليَ مجتمعي كي أواجه أفكاري التي لم أجد لها معتقد ديني أو ركائز سوى مقابلات نوال السعداوي على التلفاز.

وعندما عدت الى القاهرة لأتم تعليمي الجامعي، إنتهزت أوَل فرصة لي لأذهب الى مكتبة مدبولي، وهي المكتبة ودار النشر التي نشرت للسعداوي بشكل حصري، حيث كانت كتابتها مصبَ سخط ومثيرة للجدل لدرجة أنه قد تم رفض نشر أعمالها من العديد من دور النشر في فترة التسعينات.

فقمت بشراء العديد من الكتب ومشاركة بعضها مع صديقة لي.

وطالما وجدت ما يبقيني مطالعة لما تكتبه، فقد إهتزت لديَ الكثير من المقدَسات والأشياء التي لا يصلح الجدال فيها، مثل الدين والشريعة، تلك المقدَسات التي حدَدتني وحدَدت أحلامي وتطلعاتي. فلطالما تعلَمت بأن المرأة أقل عقلاَ من الرجل، وبأن المرأة لا تصلح لمناصب كثيرة بسبب حدودها التي خلقها الله بها، وبأنها تفتقد لحس المنطق وهي موجودة لدعم وجود الرجل. ولطالما قيل لي بأن المرأة لا يمكن أن تساوى بشقيقها في الميراث، ولا يأخذ بوصيتها بعد الموت، وأنها لا تصلح أن تكون شاهدًا. ولطالما سمعت بأنه من الجائز ضرب المرأة من قبل زوجها كي يهذَبها، وأنه لا يمكنني مجادلة والدي في حقوقي لأنه عقوق، وبأن علي إرتداء الحجاب، وأنه لا يمكنني السفر لطلب العلم إلا في وجود مِحرم، وأن كل ما يتعلق بجسدي وصوتي عورة، بأن وجودي وما أنا عليه هو حق مكتسب لكل رجل في عائلتي، وبأن قدري كامرأة محدَد بطموحي كزوجة. وما زلت أتذكر الهول الذي إنتابني عندما تحدثت السعداوي عن العذريَة في كتابها "مذكرات طبيبة".

لقد نشأت على أن أكون عالة. لم أكن فردا مستقلا، ولم يكن بإمكاني حتى الإفصاح عن رغبتي بأن أكون فرداً. ولطالما رافق هذا الإفصاح عنفاً لفظياً وجسدياً من قبل عائلتي. وهنا أستحضر هذه المقولة من كتاب الأنثى هي الأصل: "ليس هناك أي دليل علمي في البيولوجيا والفسيولوجيا أو التشريح يثبت أن المرأة أقل من الرجال عقلاً أو جسداً أو نفسياً. إن الوضع الأدنى للمرأة فُرض عليها من المجتمع لأسباب اقتصادية واجتماعية لصالح الرجل، ومن أجل بقاء واستمرار الأسرة الأبوية، التي يملك فيها الأب الزوجة والأطفال كقطعة أرض"

كنت أسمي تلك المرحلة مرحلة الصراع، أسوة بكتابها “المرأة والصراع النفسيفأتذكر هذه المقولة:

"إن المعرفة هي إثارة عدم الرضا في نفس الانسان من أجل أن يعمل على تغيير حياته إلى الأفضل. ولولا عدم الرضا لما تقدَم الإنسان ولكانت حياته كحياة الحيوانات."

كان هناك لذَة موجعة مليئة بالرفض والغضب لكسر تلك الأصنام الدينية والثقافية داخل عقلي، على قدر الألم الناجم في كل مرة، ولكني تعلمت أن أسأل.

أتذكر عندما حاول أبي إعادة ضبط جهاز الحاسوب خاصتي ومسح كل محتوياته عندما وجد عليه مقالات وكتب إلكترونية لنوال السعداوي (لأنني قد قمت بالتخلص من الكتب الحقيقية قبل عودته الى مصر). وقال لي أن كتاباتها سوف تدمَر أخلاقي، وأنه قد لاحظ تغيراً في سلوكي منذ أن بدأت أن أقرأ هذا "الكلام الفارغ وقلَة الحياء".

لم أجد في كتابات السعداوي سوى الحثَ على تحكيم العقل، ورفض الظلم في شتى صوره، وجدال التقاليد والأعراف والأديان حتى. ولكن كتابتها لم تمرَ مرور الكرام على صدري، فقد مقتَ دكتورة نوال كثيراَ، لأنها كانت تناقش وتحلل تلك الأسس التي نشأت عليها كلما تعمقت في كتاباتها أكثر. لقد خفت من المسؤولية، فلقد أصبحت أدرك أنني على نفس القدر من المسؤولية والقدرة كالرجل، وبأن عدم المساواة بين الرجل والمرأة مسألة عالمية قد إتخذت أطواراً وأشكالاً عدَة وكان لها صراعات مختلفة في كثير من الدول. وأدركت أن ذلك الصراع ليس الصراع الوحيد، بل هناك صراعات مركَبة، عرقية، طائفية، جندرية وطبقية قد خلقت أشكال عدة من عدم المساواة والاضطهاد، وأن حتى هذا شيء بُني عليه الفكر الأبوي. فحقوق المرأة مرتبطة بحقوق جميع الأقلَيات والمهمشين، لإن اضطهادها هو شيء نابع من الفكر الأبوي الذكوري المسيطر على جميع المجتمعات في كافة صورها.

ولقد تحوَلت شخصيتي أيضًا—كما قال لي أبي، فكنت أرفض عنفه تجاهي وتجاه أمي. رفضت الطريقة التي كان يعاملني بها ووصمه الدائم لي بأني عاهرة كلما عدت الى المنزل بعد الساعة الثامنة، أو كلما تحدثت مع زميل لي في الجامعة عن الدراسة على الهاتف. أتذكَر شجاره الدائم معي كلَما حاولت الحديث عن آمالي وطموحاتي في السفر الى الخارج والتخصَص في الفيزياء الحيوية أنه لا حق لي في ذلك لأني إمرأة وبالتالي نهايتي هي في بيت زوجي، ولن يسمح لي بذلك إلى أن أتزوج. وأتذكر غضبه وعنفه اللفظي والجسدي ضدي قبيل أن أتخذ أول خطواتي لترك المنزل.

تركت المنزل. وبدأت أفكَر في السعي الى حقوق لا يدعمها المجتمع ولا يحمل تجاهها أي ذرة تعاطف إطلاقا: حقوق مختلفي الميول الجنسية و الجنادرية. بدأت رحلتي عبر الإشتراك في منتديات الكترونية تهتم لحقوق مختلفي الميول الجنسية والجندرية، وعبر متابعة نشاطات بعد الجمعيات في منطقتنا خاصة في لبنان والمغرب. طالعت ما استطعت إليه سبيلاً من أبحاث وكتابات أكاديمية خاصة بهذا الموضوع. وبالتدريج، تعرفت على ناشطات وناشطين في هذا المجال عندما عملت كمحررة في إحدى المنتديات التي تعني بأمور مختلفي الميول الجنسية و الجندرية " أهواء" وأصبحت على تواصل أكبر مع الكثير من مختلفي الميول الجنسية والجندرية في منطقتي الشرق الأوسط و شمال أفريقيا.

بدأت دائرتي ونشاطاتي في الإتساع خاصة في هذا الوقت بعد تولي السيسي الرئاسة: فلقد كان ماراثوناً للقبض على المثليين والمتحولين جنسياً بشكل خاص. فعملت مع مجموعات وناشطي حقوقي إنسان لدعم هؤلاء المقبوض عليهم نفسياً، وقانونيا بشكل خاص. وكنت على تواصل مع بعض عائلات المقبوض عليهم، كما عملت مع ناشطين آخرين على ايجاد محامين يقبلون الدفاع عن المقبوض عليهم غدراً، سواء كانوا مثليين\متحولين أم لا، إيماناً مني ومن معي بحق الإنسان في الخصوصية والشعور بالأمان وحقهم في الوجود دون التعرض للتعذيب أو التعنيف أوالانتهاكات الجسدية. إلى أن قمت بتأسيس حركة Solidarity with Egypt LGBT مع مجموعة من الناشطين لنشن حملة إلكترونية ضد التعدي على مختلفي الميول الجنسية و الجندرية  في مصر، والتي قد تباطئ نشاطها نسبيا لأسباب ظرفية.

في هذا الوقت، كنت أراقب دائماً ما كانت تكتبه نوال السعداوي حول المسألة، بدافع شخصي وبسبب فضولي ومشاعري المختلطة تجاه ما أنا عليه. لم أجد الكثير من المقالات للسعداوي التي تطرقت لهذ الموضوع، مع أنني سمعت ببعض الندوات آخرها كان في شهر أغسطس هذا العام ولكني لم أجد مقالات صريحة أو حتى مقابلات مدونة لنوال السعداوي في هذا الموضوع.

وقد إعترضتني أحد المقالات اتي أثارت دهشتي بشدة عن نوال السعداوي وكانت بعنوان “نوال السعداوي: زواج المثليين ليس حراما أو عيباوكأن كل مشاكل وهموم مختلفي الميول الجنسية والجندرية قد تركزت على السماح بزواج المثليين والتبني من عدمه!

كان هذا السؤال عن جواز المثلية الجنسية أم لا يأتي بشكل دوري في مقابلاتها مفجراً ردود الفعل تلك المناهضة و الرافضة بشدَة لما تقوله. بالرغم من ذلك، فلقد كان موضوعاً جانبياً، مسألة عرضية ليست ذات قوة. مادة إعلامية رخيصة إستخدمت للإيقاع بالسعداوي، حتى أنا لم أجد أنه أمر ذا أهمية، حيث توقفت السعداوي عن تناول تلك القضية بأبعاد أكثر عمقاً لأسباب لا أعلمها.

فلم تتحدث عن الاعتقالات المتكررة ضد مختلفي الميول الجنسية والجندرية، عن الفحوص الشرجية والإعتداءات الجنسية ضدهم- عن المثلية ورفضها وتجريمها كقضية ذات ثِقل وذات طابع حساس وعمق وأصول أبوية. فكان النقاش الدائر دائماً عن حرية التصرًف لا عن "حق" الوجود. ولم تتطرق السعداوي أيضا للأبعاد السياسية التى أدَت إلى سن قوانين زواج المثليين في بعض الدول الغربية الرأسمالية.

ربما كانت توقعاتي من عرابتي أكثر من اللازم، ولكنني لم أفقد رغبتي في معرفة رأيها و تحليلها للأمر بشكل أكثر وضوحا وواقعية. فلقد حاولت التواصل مع دكتورة نوال السعدواي دون جدوى، بعد أن قمت بنظم مجموعة من الأسئلة أنا وأصدقاء لي، ثم أرسلتها عبر البريد الإلكتروني، ولكنه قُوبل بالرفض أو عدم الإكتراث من مساعد دكتورة السعداوي والذي أنا على معرفة شخصية به. كان هذا منذ عام تقريبًا.

وبما أن العالم الأثيري ليس له حدود أو حواجز، فقد قررت أن أرسل رسالتي هنا لدكتورة نوال، بدلاً من أن أعتمد على وسيط بيني وبينها، لعل أحد من هؤلاء الذين هم على تواصل مع دكتورة نوال يقدر بأن يطلعها على رغبتي الشديدة في الحديث معها

 

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Category: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: