أمّي اعتقدت أنني أحب

Getty Images

 

نضال أيوب

 

يمكنني القول إني نجوت، أو أقلّه حتى هذه اللحظة.

كان يمكن أن أكون الآن شخصاً آخر. كأن لا أكون، مثلاً، مستيقظة حتى هذه الساعة المتأخّرة. فالمرأة الذي كنت سأكونها، عليها الاستيقاظ باكراً، لأن الغد ليس عطلة، وعليها أن تحضّر لأطفالها فطورهم قبل الذهاب إلى المدرسة. ففي مثل سنّي، كان لدى أمي ثلاثة أولاد، أنا منهم.

عمّتي كانت تقول، حين تبلغ الفتاة الرابعة عشر ولا تتزوّج، ستصير عانساً طوال حياتها. أمّا أمي، فلم يكن همّها يوما تزويجي، إلا أنها كانت تعتقد أنني أُكثر من العلاقات. سريعة الدخول في علاقة عاطفية وأسرع في الخروج منها. وكانت تقول لي: "كل يوم بتحبّي حدا". حسناً، فلتنّفق يا أمي: لم أكن أحب حينها، كنت أبحث. ولقد نجوت، نجوت مراراً. وكلّما بحثت أكثر كنت أبتعد رويداً رويداً عن الخطر.

المرّة الأولى التي نجوت فيها، كانت حين بدأ يتحوّل تدريجياً إلى شرطيّ، يحدّد لي الساعة التي يجب أن أعود بها إلى منزلي، ولاحقا بدأ بالإشارة إلى الثياب التي عليّ رميها، لأنها تظهر جزءاً كبيراً من جسدي. يومها نصحتني صديقتي بأن أذعن له. "إذا بتحبيه لازم تغيري كل خزانتك كرماله". لم أكن نسويّة حينها يا أمي، ولم أكن أعرف شيئا عن الذكوريّة، ولكنني حسبتها جيداً: لماذا يريد أحد أن يكون وصيّاً على جسدي، وما همّ ما يُكشف منه أو يُغطّى؟ ففي النهاية أنا لست مجرّد جسد يا أمّي. وبكلّ صراحة، أفضّل أن أبدّل حبيباً على أن أستغني عن ثيابي التي أحبّها.

يومها نجونا سويّاً، أنا والثياب التي أحببتها.

إحدى المرّات حين خيّرني أحدهم، بينه وبين صديق لي، بحجّة أنه لا يؤمن بالصداقة بين ذكر وأنثى. يومها اخترت صديقي. الصديق نفسه الذي حذفني من حياته حين تزوّج، لأن زوجته تغار. لم أندم. فعلي هذا لم يكن مرتبطاً بشخص الصديق بقدر ما هو مرتبط بمفهوم الصداقة نفسه، وبرجل يظن أن له حق اختيار رفاقي، وتحديد خياراتي وحصرها بين ثنائيين. هل كان يُعقل أن أرتبط بشاب يرى الأشخاص عبارة عن كائنات جنسية؟

في هذه المرّة نجوت مرّتين، مرّة منه، ومرّة من صديق مزيّف يملك في رأسه التفاهات ذاتها.

مرّة أخرى، حين أخبرني أنه يخونني، وبرّر أنه "رجل"، والرجل لديه رغبات، ولأنني حبيبته لا يجدر بنا أن نمارس الجنس، وفي الوقت نفسه لا يستطيع الانتظار ريثما نتزوج، لذلك يعبث مع أخريات. قد تعتقدين الكلام هذا مديحاً، إلا أنه ليس كذلك. وقد كان من المستحيل أن أبقى مع فقّاعة رغبات مجسّدة بهيئة رجل.

مرّة أخرى، وكانت المرّة الثانية التي نخرج سوياً، كنّا جالسَين في أحد المطاعم، وسألت عاملاً عن سبب التأخر في إحضار الطعام. يومها، وجّه إليّ ملاحظة، بأنه هو الرجل، وبالتالي هو من يجدر به أن يسأل وليس أنا. كان من المستحيل أن أستمر مع كائن يظن أن امتلاكه لعضو ذكري، يخولّه بأن يملي عليّ أوقات كلامي وظروفها.

مرّة حين اكتشف أحدهم أنني ما زلت عذراء. يومها، كنت أسعى للتخلّص من هذا العبء، وقد أعرب هو عن احترامه الشديد لهذا الموضوع، وقد استرسل في مديحه لعذريّتي، وشرح لي كيف أن الفتيات تغيّرن في هذا الزمن، وهو لا يعرف سوى أخته، والآن أنا، ممّن بقين عذراوات. تخيّلي يا أمي، أن هناك من لا يزال يربط الاحترام بغشاء سخيف بين فخذَي امرأة.

لقد نجوت مراراً، مرّة عني ومرّات عوضاً عن نساء لم يُقدّر لهن أن ينجون. لربما أردت أن أنجو عنك أيضا يا أمي، أنجو من مهام لا تنتهي وُضعت على عاتقك وأنت ما زلت طفلة، أنجو من تعب بانت ملامحه على وجهك حتى قبل أن تكبري. لم أعد سريعة في دخول العلاقات يا أمي، البحث الذي كنت تسمّينه حباً، جعلني أعرف وجهتي.

لا أخفي عليك، أشعر بالوحدة أحياناً، ولكن حين أرى ما أملكه من الوقت لنفسي وما هي الأشياء التي يمكنني أن أقوم بها، أغمض عيني، أصغي إلى الصمت الذي يحيطني طوال النهار وأبتسم. لقد نجوت.

Publisher: 

صوت النسوة

Section: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: