ليس في ما سيَلي ما يدعو إلى الإكتئاب. هنا سيلٌ من الأمل. أمل، على شكل كلام شخصي في السياسة، او كلام سياسي في الشخصي. لا فرق.
انا أحب النقل العام. لنقل إنني أفضّله على قيادة سيارة في بيروت وإلى خارجها. لم أرتب يوماً من سيارات الأجرة الفارغة ما بعد منتصف الليل. إخترقت قصة حياتي الهانئة نسبياً مع النقل العام في لبنان بضعة حوادث مزعجة طالما منعت نفسي من وصفها بالمخيفة. لكنها كانت بالإجمال مخيفة. تراوحت قصصي مع سائقي سيارات الأجرة بين الإهتمام غير المرغوب به، لكن غير المؤذي مروراً بالتحرش اللفظي الوقح المُرفق بنظرات أوقح، وصولاً الى الاعتداء الجنسي الصريح، المفضوح ... والمخيف. إلا أني لا أذكر أن أيا منها أثناني عن معاودة استخدام "السرفيس" ، وذلك ليس لدوافع بطولية، بل لضرورات السكن في بيروت والرفض المبدئي لاقتناء وقيادة سيارة في هذه المدينة.
إليكنّ نموذجاً. مرّة، استقلّيت سيارة أجرة من الحمرا الى الأشرفية حيث أسكن. لم أنظر الى الساعة لكنها كانت متأخرة. "إلى أين؟"، بادرني السائق بالسؤال لحظة دخولي السيارة. بالكاد لفظت كلمتين حتى قاطعني ليبشرني أنه ورغم معرفته الوطيدة بمكان سكني غير أنه ما إن يراني حتى يُسلَب عقله وينسى كل شيء، فيعاود سؤالي. وأخذ يسألني عن سرّ ابتسامتي و"إشراقتي" ولا سيما حين أمشي بمفردي في الليل. اخبرني الرجل بأنه يراقبني على الدوام خاصةً في الليل، وأنه كل مرّة يقلني، يمعن النظر في وجهي وأنا سارحة خارج النافدة. راح الرجل يتذمّر كيف أنّني لم أعره إهتمامي يوماً ولم أسامره وأصرّعلى معرفة بم أسرح، ومن يشغل تفكيري، وطبعاً حسد الشاب الذي أحب. رغلج مرآته الأمامية، ليراقب ردة فعلي على تفاهته ويحدّق بي فيما صدح صراخ نانسي عجرم من الراديو. أما أنا، فلم أتمكّن إلا من العبوس بوجهه والرد على أسئلته بأقصر و"أجفص" تعابير ممكنة. وجدت نفسي بلا حيلة، وكي أمعن بتخييب ظنّي، ادّعيت أنني أكلّم رجلاً عبر الهاتف لأعلمه بوصولي الى البيت. وجدتني، من حيث لا أدري، ألوم نفسي على العودة المتأخرة إلى المنزل. وعلى عدم العودة مع أحد الأصدقاء بسيارته باكراً، وعلى عدم تمكنّي من التّركيزعلى الكتابة في بيتي، وعلى تفضيلي لمقاهي الحمرا على مقاهي الأشرفية رغم بُعدها الجغرافي عن مسكني. وجدتني أطمئن بغريزية إلى قرب بيتي من المديرية العامة للأمن العام. ما يعني أن الشارع مضاء دائماً. وما يعني أن المنطقة "محروسة". توّقف السائق لينزلني، دون إشارة منّي، عند مدخل الطريق الأسرع نحو الحيّ الذي أسكنه، والذي يقع قبل المكان الذي أحدده للسائقين عادةً بعشرات الأمتار. بعد إقلاع السيارة، شعرت برعبٍ بمفعولٍ رجعيّ. لم يَدُم الرعب سوى دقائق لكنه كان رعباً صافياً كامل الثقل.
لا أذكر أنّني أُثنيت يوماً عن إستخدام النقل العام لكنني أذكر لحظات ممتدة من ذاك الرعب. أذكر مساحات يتآكلها الإرتياب تتّسع في داخلي. أذكر غضبا يحرق الحلق ويُقعد اللسان. أذكر كرهاً غير مبرر للذات ولهشاشتها، وأذكر لوماً أدينه عند الآخرين. لكن أخطر ما بقي فيّ نتيجة الحوادث هذه هو الشعور بالذنب. لعنت النظام مراراً، والذكورية تكراراً لأنها سبب تمكّن الذنب من التسلل الى نفسٍ تصارع غضب ما بعد الصدمة.
رغلج المراية ليقدر يحدق فيي كل الطريق ويسألني اسئلة تافهة متل شكلو، ونانسي عجرم عم تزعق عالعالي من الراديو. وغير انني عبست بخلقته طول الوقت ورديّت بأجفص طريقة ممكنة، إدعيت انني عم بحكي مع حدا - زلمي - على التلفون وقلّوا انني واصلة على البيت. ولقيت حالي عم لوم حالي انه شو مرجعني بهالوقت عالبيت وليه تأخرت هيك؟ وانو ما كان احسن إرجع مع رضا من ساعتين؟ وانو اصلاً لازم إتعلم اعرف ركّز وإشتغل بالبيت، وإنو شو بها الأشرفية ما بينشغل فيا، ليه تإقعد بالحمرا؟ وكما ولقيت حالي عم بشكر الآلهة انو المديرية العامة للأمن العام حد بيتي وبالتالي الشارع دايماً مضوي، ودايماً في حدا واقف عم "يحرس" المنطقة (مع انو ما بحياتن حرسو شي بيحرز). وبلا ما قلّه، نزلني على المفرق اللي بنزل عليه عادة لآخد الطريق الأسرع على البيت، واللي هو قبل العنوان اللي بعطيه اول ما إطلع. الشوفير ضلّ ماشي بس انا حسيّته لاحقني وما عرفت كيف وصلت عالبيت.
أن يلومنا الخطاب العام على الإعتداءات التي نواجهها يومياً عاديّ ومتوقع. الخطر أن تصير مشكلتي مع نفسي. أن تصير مشكلة ضحية التحرش مع نفسها، مع عودتها المتأخرة الى المنزل، مع عودتها بمفردها، وليس مع الرّجل المُتحرّش. ولا مع النظام الذكوري الذي يأويه ويحويه ويشجعه، ويتسامح معه. ولا مع القيم التي تسمح للمتحرّش ألّا يدرك أن ما يقوم به تحرّش، مؤذ، انانيّ، مخيف، غير مرغوب، أو أن يعلم وألّا يثنيه عِلمه. الخطر أن يصبح الحلّ بالّا تعود الضحية إلى "تلك المنطقة"، وبأن تحدث تغييرات قصرية على نمط حياتها.
الخطر ان أستعين برجل وهمي لتخويف مشروع متحرش، لأنني لا أكفي لمنعه من التحرش بي لا بعد منتصف الليل ولا في وضح النهار. الخطر أن أقتنع بأنني لا أكفي. وبأنّه عليّ ان أُحسب على رجل ليرتدع آخر عنّي. الخطرأن نطبّع نحن، ضحايا هذا العنف والمقاومات له في الوقت عينه، مع هذا الخطاب وحين نعجز عن منع أنفسنا من مجاراته، فنفقد القدرة على التعرّف على أنفسنا السّياسية المقاوِمة وسط هذا العفن.
ولكنّنا اتفقنا أن هذا لن يكون سرداً كئيباً.للسّرد هذا هدف الإبلاغ عن أداة تسعى للمساهمة في مقاوماتنا اليومية الكبيرة – التي نعتقدها صغيرة – للمستنقع العفِن الذي غالباً ما نجد أنفسنا فيه.
"متعقّب التّحرش" مبادرة تهدف الى توثيق حوادث التحرّش عبر خريطة وإستمارة تبليغ على موقع إلكتروني. وأبعد من مجرّد التّوثيق، لعلّ الهدف الأهم للمبادرة هو جمع أدلّة للضّغط على الأجهزة المختصّة لتأمين بديهيات الحياة الآمنة للنساء في المدينة. على المدى البعيد، تسعى المبادرة لفتح النقاش في الفضاء العام حول التّحرش الجنسي، ونقل الخطاب حوله من لوم الضحية والاستخفاف بالقضية إلى البحث العميق والجدّي بها، وبأسبابها، وبمعالجاتها المُحتملة.
لن تكون هذه الأداة دعوة للنساء ليلتزمن بيوتهنّ ليلاً. لن تدعو النساء الا للتبليغ، لن تقول لهن الا أن فعل التبليغ مقاومة، وأنه يشي بقناعة أن المُبَلّغ عنه خطأ وجرم وانتهاك. لن تدعو هذه الأداة النساء إلا للقضاء على صوت الذنب الذي يأكل ضمائرنا حول ساعة الخروج، والثّياب التي نرتدي، والمشروب الذي نحتسي، وحول وجودنا بذاته.
سيخرج طبعاً من يقول أننا نضخّم الأمور وأن ما نسميه تحرشاً هو فعلياً تودّد. القائل هذا غالباَ ما لا يكون ضحية تحرّش. إلا أن الجهة الوحيدة المخّولة بتعريف التحرّش وتحديد الأذى الذي ينتجه، هي ضحيته، لا والدها ولا صديقها ولا زوجها ولا الشّرطي ولا آخر حلقة من برنامجكم الحواري المفضل.
لكن أيكفي التوثيق؟ وحده لا يكفي طبعاً. لن يكون التوثيق هدفاً بذاته، لكنه سيكون وسيلتنا لفتح النقاش حول التحرش الجنسي في اوساطنا، حول علاقات السلطة غير السوية، حول الغبن الذي يلحق بالسواد الأعظم من العباد في هذه البلاد نتيجة علاقات السلطة هذه. سيكون وسيلتنا للتصويب على أصل العلّة.
ثم سيخرج من يقول أن في تعميم الحديث عن التحرش الجنسي ظلم. لأن ليس كل الرجال متحرّشين، وليسوا كلّهم مسؤولين. خطأ. كلّنا مسؤول. كلّكم مسؤول. ثمة منكم من لا يتحرش طبعاً، لكن صمتكم – أنتم الآخرون - يختم صك شراكتكم بذكورية الأكثر ذكورية بينكم. وعليكم مسؤولية صمت الصامتين منكم. هذا التآمر المطبّع مع ثقافة التحرش وتصرف المتحرشين ولوم الضحايا المباشر وغير المباشر، هذا التآمر المتأرجح بين التقّبل والموافقة والرفض الأبكم والأصمّ، يدينكم. إن كنتم فعلاً رافضين لما تشهدون عليه، بلّغوا عنه. على الأقل بلّغوا، لأن المقاومة الفعلية للتحرّش هي تجريمه في العقول قبل النصوص. وهذا صلب مكافحة إستغلال السلطة ومحاربة الاستثمار بعلاقاتها غير السوية لإقصاء الأكثر هشاشة.
هذه معركتنا نحو عدالة إجتماعية تشبهنا، لا إنتقائية فيها. لا يُقصى فيها الخارج عن السائد، ولا يُهمّش فيها من لا يملك إمتيازات كافية للنجاة بقليل من الكرامة. هذه معركة من لا يرغب بالرّحيل، لكن لا يريد الموت ذلّاً هنا. معركة من لم يتخلّ بعد عن احتمال الحياة الكريمة في بلد يعجز عن تأمين أبسط مقوّمات الحياة، بل ويتعمّد أحياناً حرماننا منها. وتأتي هذه الأداة سلاح المعركة، تتيح الكلام عن الظلم الذي نشهده كل يوم عوض التحديق به وهو يقضم القطعة تلو الأخرى من دواخلنا. هذه الأداة لمن لا يملكن سوى مقاوماتهن اليومية المتراكمة.
والزمن اليوم لم يعد زمن سكوت عن التعدّيات. ولا زمن الإملاءات المجتمعية على أجساد النساء ولا زمن التكّلم باسمهنّ. أنت، ضحية التحرش، وأنت وحدك التي تملكين الحق الحصري بتصنيف ما تتعرضين له وتقييم ردّة فعلك عليه. يكفي أن تدركي أن العلّة ليست بك رغم حدّة الضغط المجتمعي عليك لتعتقدي ذلك.يكفي أننا نعرف أين العلة وأننا بتنا نراها، ونراكم تخبئونها في ظل البالي من قيمكم. يكفي أنكم بتّم تحت نظرنا ولم تعد نظراتكم ترهبنا. نعرف مكمن العلة، ولو لم نستطع الإشارة إليها بإصابعنا، فلنشر إليها إفتراضياً على الأقل ولنبلّغ. لنبلّغ، ستشكرنا اللاحقات.
Publisher:
Section:
Category: