بيت مخابرات صغير
لا أذكر كيف اصبح ذلك البيت "بيت مخابرات سوري" ولا اعرف ما الذي دار داخله. اذكر انه كان بيتا صغيرا وكان له لونا مختلفا عن باقي البيوت في بربور. كان زهريا او اصفراللون. بيت صغير من طابقين او ثلاثة بين البنايات الكبيرة في بربور. حين أمرّ بجانبه في طريقي الى المدرسة، كنت أقطع الطريق الى الرصيف المجاور، واحاول الا انظر الى الرجال الذين يدخلون ويخرجون منه. وكما جرت العادة، مع كل بيت مخابراتي صغير، كانت تأتي السيارة السوداء الشبح، تُركَن عادة خارج البيت للدلالة على أهمية البيت، وعلى انه بيت مخابرات سوريةوكانت صورة حافظ الأسد ملصقة داخل السيارة الى أن توفي ابنه فتبدلت بصورة باسل الأسد على حصان.
أمرّ بمحاذاة البيت، أبتعد الى الجهة المقابلة، أخفض نظري وألتقط أنفاسي. لم يعلّمني احد ان افعل ذلك، عرفت لوحدي.
في يوم ما أختطفت "المخابرات السورية" صديق لعائلتي أتى ليزورنا في العيد. هكذا اختفى. أعصبوا عينيه فلم يعرف اين أخدوه. قبع في غرفة بلا ضوء يومين. أخبرنا انهم اخدوا منه ساعته فلم يستطع معرفة الوقت. ثم اطلقوا سراحه لانهم اعتقلوا الشخص الخطأ. ربما هو الذي يعرف ما كان يدور داخل بيت المخابراتي السوري الصغير في بربور.
ولعائلتي ذكريات حول تاريخ هذا البيت. تقول امي أنه كان سابقا بيت مخابرات فلسطيني صغير احتله السوريّون في وقت ما خلال الحرب. ويقول عمّي القانونيّ الذي يرى كل شيء عبر القانون ولا يصدّقني حين اقول له ان الأمن العام قال في بيان انه يحق له اعتقال أي شخص دون مراجعة القانون وانه هناك شي يدعى مذكرة اخضاع "ما في هيك شي بالقانون، مش صحيح هالحكي"، يقول ان بيت المخابرات السوري الصغير لا يمكن له ان يصبح ممكنا في بربور ما لم تكن أرض البيت مساحة عليها خلاف قانونيا معيّن، وإلاّ كانت بناية اخرى قد انبثقت مكان البيت الصغير، واستعُملت بطريقة خاصة. يجب ان تري الاطر القانونية للارض كي تعرفي حقا كيف تصبح بعض المساحات والامكنة في بيروت مساحات مخابراتية، قال لي، عدا عن الاهمية الاستراتيجية للبيت عسكريا خلال الحرب الاهلية، التي بقيت استراتيجية بعد الحرب.
2005: البيت يفرغ من دلالاته.
اصبحت سيارة الشبح السوداء والبيت الزهري او الاصفر اللون جزء من التكوين المعماري والحياتي في بربور، كدكان الخضرة مثلا او محل المناقيش. نسيته تماما، ولكني لم انس ضرورة خفض عيني وقطع الطريق، ولا اذكر اني مررت بجانبه ابدا. عند خروج القوات السورية من لبنان في 2005، اختفى كل الشباب من البيت واختفت السيارة فجأة. بدا بيت المخابرات الصغير فارغا ومرعبا. ومع اختفاء الشباب، اختفى ايضا سكان طابق كامل في البناية المجاورة. "طلع في مخابرات سورية هون" قال الجميع في بربور في دهشة. ترك شباب بيت المخابرات الصغير والشقق في البناية المجاورة جوّة كبيرة في بربور، فتحة عملاقة في المنطقة، كأن شيئا مستورا ومخبأُ قد اصبح. قد كنا محاطين بالمخابرات السورية، وقد تعايشنا معها كل يوم.
2006-2011: باي شباز مخابرات، هاي شباز حركة امل
بقي بيت المخابرات السوري الصغيرمهجورا لسنين. قد يكون قد استعُمل من شباب حركة امل لفترة، للعب الورق والأركلة، لإجتماعاتهم الأمنية، قد يكون قد لعب دورا مهما في 7 ايار، أستعُمل لتعبئة الحركة مثلا التي ضمّت اسطولا من الاولاد كانت مهمتهم إنجاز الحواجز ونقل الحجارة لقطع الطريق...
كل ما أعرفه أن بيت المخابرات السوري خلق فراغًا كبيرًا في بربور اصبح واقعاحين تهدّم البيت الصغير، وبدت الأرض فارغة من اي خطاب سلطوي او دلالة سياسية. استعمل شباب حركة أمل الحركة الارض بسرعة لامتلاكها: كشك قهوة صغير جذب كل الشباز، وركُنت بعض السيارات هناك. وعندما أي اشكال في بربور كنت أسارع الى البلكون لأنظرالى الأرض حيث كانت انقاض بيت المخابرات، كي أرى ما ردة فعل المنطقة الاستراتيجة على المشكل.
(2011-2015) السيسي، الامام حسين، بشار الاسد ونبيه بري: انتشار وهستيرية الرموز على انقاض بيت المخابرات السوري الصغير
مع قيام الثورة السورية وما ترتب من ذلك من دخول حزب الله في حرب مباشرة لدعم النظام السوري، تحولت أنقاض بيت المخابرات السوري الصغير الى مكان لتكاثر وانتشارالاشارات والشعارات التي تعكس خطاب السلطة القديم، ولكن بنكهة جديدة، فكأنّ بيت المخابراتي السوري الصغير قد بُعث من جديد. أولا، ظهرت صورة كبيرة لبشار الاسد لصّقت على حائط البناية الملاصقة لارض بيت المخابرات. بعد اسابيع اضيف الى جانبها صورة نبيه بري. ثم الغيت الصورتين واضيفت صورة كبيرة لبشار الاسد وفوقها كتب
الأمة
قائد العربية
وبعد اسابيع، استبدلت الصورة بصورة عملاقة لنبيه بري كقائد الامة العربية. وهكذا بقيت الدلالات ترجح بين الصورتين وحجمهما، واصبح هذا الحائط مركزا للدلالة على من هو قائد الامة العربية اليوم. انتشرت الشعارات الجديدة في البناية المطلة على هذه الارض. فظهرت صورة الامام حسين يوما، وبجانبها صورة لبشارالاسد. وفي 2012 انبثقت من حيث لا تعلمون صورة جديدة في الحائط االخلفي للبناية: صورة السيسي التي حتى اليوم لا افهم مغزاه السلطوي في بربور. ومع انتشار الشعارات والدلالات الجديدة حول انقاض بيت المخابرات السوري في بربور، انتشرت مقاهي الشباز ايضا اومتد الكثير منها الى الرصيف فامتلكه الشباز، يجلسون عليه حتى وقت متأخر في الليل.
(2016) انتخابات بلدية، الاب القائد وبيت المخابرات كخيمة عاشورا
يبدو وضع الدلالات السياسية لانقاض بيت المخابرات السوري في بربور مربكا وحائرا في 2016. أزيلت جميع الصورة من الحائط، فبدا مضحكا مع عبارة
الأمة
قائد العربية
وتحت العبارة فراغات اربعة خيث كانت الصور.
قضى المطر والشتاء على صورة الامام حسين ولم يبدّلها احد.
بقيت صورة بشار الاسد والسيسي تتحديان الملل.
ومع الانتخابات البلدية، ظهر بجانب السيسي ملصق مدني حضاري (قد يكون قد وضع من قبل البلدية) لالصاق صور المرشحين.
وفي عيد الجيش لُصِّقت صورة للجيش وقائد الجيش على الحائط، واصبح هو قائد الامة العربية لاسابيع، ثم أزيلت.
وفي الليلة السابقة لعاشوراء تحول بيت المخابرات السوري الصغير فجأة الى خيمة عاشورية كبيرة. ولكنها ازيلت يوم عاشورا ولم تستعمل كما اراد الشباز لسبب غير واضح. من الممكن ان أحدهم قد اعترض على "تشييع المنطقة"...
مع زوال البيت، تحولت لغة السلطة الى اشارات متقاطعة ومنتشرة، كردة الفعل على حدث سياسي ما وليس كلغة مهيمنة لامرئية.
الحُلم سيد الاخلاق
في مكان ما قريب من أنقاض بيت المخابرات السوري في بربور، كتب أحدهم على حائط ما تحت الارض: "الحُلم سيد الاخلاق". هذا الشعار كان من اجمل ما قرأتُ في بربور، ربما لاني لم أجاهد يوما للبحث عن المصدر والمعنى الحقيقيين للجملة[1] بل كنت أتخيّل العلاقة بين أحلامنا وأخلاقنا كلما مررت بجانبها. أزيل الشعار منذ سنة او اكثر، لكنّ الجملة ما زالت ظاهرة، احاول ايجاد حروفها كي أجعلها واضحة اكثر بالرغم من الدهان الذي يخفيها.
Publisher:
Section:
Category: