أنا الآنسة الهستيرية

شمشومة، بدها تقبّركم كلكم

وجع ظهر

لا اعرف تماما متى بدأ وجع ظهري، ولكنه اصبح لا يحتمل في السنة الأولى لدراسة الدكتوراه في اميركا. كنت اجلس ما يقارب الاثنتي عشر ساعة في مكتبة الجامعة، اقرأ واكتب. وعند انتهائي اخرج الى حانات مختلفة اشرب وزني من البيرة الرخيصة. وتنتهي ليلتي في الساعة الواحدة و سبعة وأربعين دقيقة صباحا اركض عندها باتجاه المحطة كي استقل آخر حافلة تقلني الى بيتي في أطراف المدينة الجامعية. ادخل الى البيت، أتهاوى على السرير و احيانا انسى المفاتيح في الباب. و أكرر ذلك في اليوم التالي.

وبين جلوسي المستمر و قناني البيرة الرخيصة انبثق ألم في ظهري مملا كأحاديثي اليومية مع طلاب الدكتوراه  الآخرين.

نصحني أبي بطبيب يذهب اليه ليعالجه من "الديسك" في مستشفى رزق فور رجوعي الى لبنان للشروع في بحث رسالة الدكتوراه سنة 2012. أخذت موعدا معه وذهبت الى عيادته، حيث رحّب بي و بدا لطيفا. قلت له اني اعاني من ألم في ظهري وإنّ الألم بات رتيبا و يوميّا. ضرب ركبتيّ بأداة، كبّس على ظهري وانتهت معاينته بأقل من دقيقة.

"ما تخافي، عندي الدوا المناسب لالك، بس تاخديه حيختفي الوجع كليا، مثل السحر! انا عرفت شو المشكلة".

 

شكرته وفرحت أنّ هناك دواءً سيجعل ألمي يختفي دون عناء. كتب اسم الدواء على روشيتة : "لازم تواظبي على الدواء حتى ترتاحي".

فور قراءتي لاسم الدواء، أدركت انه مضاد للاكتئاب. علمت ذلك كوني كنت، في حياة سابقة، طالبة في علم النفس و كنا قد درسنا عن أنواع الأدوية النفسية وتأثيرها على المزاج. ولولا تلك المعرفة لكنت قد ذهبت الى أقرب صيدلية لشراء الدواء دون تردد.

"بس هيدا الدوا هو مضاد للاكتئاب!"

"اي صح. هيدا الدوا ما ح يخليكي تحسّي بوجع الظهر. "

"...ليه عم تعطيني دوا نفسي؟"

"انت دوموازيل (آنسة) حساسة ورقيقة. الدوموازيلات الحساسات مثلك بحسّوا اوقات بأوجاع لانهم حساسين، بيساعد الدواء النفسي الآنسات الحساسات مثلك على تخطي هذه الأوجاع".

نظرتُ إلى الطبيب  بذهول. في أقل من 5 دقائق قرّر انّني آنسة حسّاسة ولذلك أشعر بألم لا وجود له جسديا. ولم يشعر بحاجة لاعلامي بأنه يجب عليّ أن آخذ الدواء لمدة ستة اشهر، كمعظم الأدوية النفسية، وانه يمكنني ان اتعرض لمشاكل طبية اذا توقفت عنه. تراءت لي فجأة العوارض الجانبية لتلك الأدوية، كعدم اختلاطها مع الكحول وتأثيرها على الرغبة الجنسية.

"بس هيدا الدوا  ممكن يعمل عوارض جانبية سيئة خاصة مع الكحول وممكن يأثّرعلى الرغبة الجنسية! كيف بتوصفه بلا ما تخبرني شو هني العوارض وشو ناطرني بس اخده؟"

"لا حبيبتي ما تخافي. انه الدوموازيل الحساسة مثلك ما حتشرب اكثر من كاس نبيذ بالاسبوع اصلا " (ولم يتطرق الى موضوع الرغبة الجنسية).

اعتقد اني فقدت اعصابي كلها في تلك اللحظة بالذات. كاس نبيذ واحد في الاسبوع؟!؟ في الاسبوع؟!؟

"كيف ما بتعطيني صورة واحدة لظهري لتتأكد من وجود اي مشكلة؟ بأي حق تعتبر وجعي مش موجود؟!"

"اذا بدك صورة منعمل صورة ما في مشكل، بس ما حيطلع شي بكرا بتشوفي. عملي صورة وارجعي" .

 

انا الحكيم \ هستيريا  

خرجت من العيادة وانا ابكي من الغضب. لا أتذكر اسم المرض الذي شخّصني به الحكيم، ولكني اذكر اني قرأت عنه ووجدت انه نوع من الاضطرابات الجسدية، و قد كان التشخيص مرادفا لمرض الهستيريا. ناسب هذا التشخيص ما قاله الحكيم لي عن حساسيتي ووجعي لان الهستيريا في الطب النفسي تشير في الكثير من الاحيان الى انّ اوجاعك التي تشعرين بها وتعانين منها جسديا هي واهمة وكاذبة ومصدرها نفسي. احيانا ترمز الهستيريا الى انّ آلامك ليست مهمة وغير مرئية.

خضعت لصورة لظهري و اخذت التحاليل الى العيادة مجددا. كانت النتيجة أن هناك التواء في المنطقة السفلية لظهري بنسبة 20 بالمائة وكانت النسبة ذات دلالة إحصائية. تعلقت بهذه الإحصاءات العلمية ا كأنها الحقيقة المطلقة. قّدمت النتائج للطبيب، قرأها و قال:

 

"هيدا الالتواء منه مهم، لازم  تأخذي الدواء الذي وصفته لك".

" ولا ممكن اخد هيك دوا انت ما الك حق توصف دوا نفسي للناس. وكمان نسبة الالتواء مهمة احصائية مثل ما قال الخبير."

نظر اليّ الطبيب بغضب وقد نفز صبره. ضرب يديه بقوة على مكتبه وصرخ:

"انا الحكيييم!"

سأرجع يوما اليه وسآخذ الدواء، هكذا قال لي في نهاية الزيارة.

"حترجعيلي".

 

انا الآنسة الهستيرية

بقي المشهد الاخير يلازمني يوميا. تحوّل وجع ظهري إلى غيظ شاسع عمّ الشوارع  والمدينة ألما وقهرا. اخرج الى الشارع وأرى عيون الرجال تلاحقني من كل صوب ولم اعد قادرة على تجنبها او تناسيها.

أنا الحكيييييييم.

وكأنّ الطبيب قد أطلق من حيث لا يدري آلاما واوجاعا متراكمة طافت في جسدي.

عيون كبيرة ضخمة تحدّق فيّ كل يوم قد ظهرت فجأة و أصبحت واضحة. باتت السيارات التي تتوقف عند رؤيتي واقفة في الشارع انتظر المواصلات  يدعوني رجل فيها للدخول "كي يوصلني" والتي اعتدها منذ كنت في العشرين من عمري، باتت امرا لم اعد اقدر على تجاهله. رجال يلاحقوني في الشوارع و نظراتهم تتحقق من كل ثنايا جسدي.

قررت انزال حقد دفين على المدينة. قررت ان اصبح الآنسة الهستيرية الحساسة. لم يكن ذلك حقا قرارا بل رغبة عارمة في تحطيم كل شيء واغراقها بسيول عارمة من الغضب.

انا الآنسة الهستيرية اذا.

اتخيل نفسي واقفة في الشارع، اضرب رجليّ بالارض كالحكيم يضرب يديه على مكتبه، واتحول إلى الآنسة الهستيرية. ابحلق في مؤخرات الرجال ووجوههم ، امرر نظراتي الى كل انحاء جسدهم حتى يتفقدون ملابسهم ومنظرهم بتلبك. المح بطرف عيني رجلا يتقدم نحوي، اقفز وبقدرة هستيرية أصبح خلفه، أمشي وراءه على مهل وأكاد التصق به. يلتفت بقلق، يحاول العبور الى الجهة الاخرى من الرصيف ولكني اذهب وراءه واصرخ في وجهه.

فعلت ذلك مرة في الحقيقة و قال لي الرجل اني مجنونة. ابتسمت وقلت له أنّ ذلك صحيح، بععععععع.

 

خاف وهرب.

انا الآنسة الهستيرية.

أضرب رجليّ بالأرض مجددا و أدفق غضبي على الجميع.

 

آلام النسوة

كانت  سنة 2012 هي السنة التي التقيت بها شمشومة (انظري الى الصورة اعلاه) على حائط الوردية في بيروت. جسدّت لي آلاما قديمة ومتراكمة وهي تجرّ  وراءها مصلا طبيا يغطّي ويقمع بعضا من المها،  في يدها جروح مفتوحة ترشح  و تحمل عصاة سوداء كبيرة تلّوح بها. آلام وغضب تتقاسمهما وترثهما النسوة مع بعضهنّ البعض.

من يخاف من آلام النسوة في لبنان؟

 

وكم من اوجاع وآلام تراها وتعالجها المنظومة الطبية كمرض ذهني يخفي وجودها كآلام جسدية تستحق المعالجة واالشفاء؟

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: