حتميةُ البوح| لمن يهمها الأمر

SAN Images 2018

 

 يصدرُ هذا العددُ من "صوتِ النسوة" وندخلُ في نفقِ المجهول، ولكننا نحبُ المجهولَ وندخلُهُ قادرتٍ عليه، ومتحكماتٍ به، ولا يخيفُنا، لأننا نوجدُ الأشياءَ بالإيمانِ بأصواتِ النساءِ وتوقِهنّ للعدالة. ندخلُه بعد َعشرِ سنواتٍ من العملِ والإصدارِ والكتابةِ والتعب. عشرُ سنواتٍ من وجوهٍ دخلت المجموعةَ وخرجت منها دائماً بتجربةٍ خاصةٍ وبكثيرٍ من التعلّمِ والحب. منذ 2009 كان "صوتُ النسوة"  الفضاءَ الذي يؤمنُ بأنَّ الكتابةِ نجاةٌ، وبأن قصصَنا وآراءنا هامة، وأنَّ فعلَ الكتابةِ  النسويةِ لا يرتبطُ ولن يرتبطَ بالمعرفة ِالأكاديمية، بل هو فعلٌ مقاومٌ لها ولسلطتِها غيرِ المحقة والمُتحيزة على ما يمكنُ أنْ يكونَ معرفةً شرعيةً وما يمكنُ أنْ لا يكون.  بعدَ هذا العدد، تدخلُ "صوت النسوة" في خلوةٍ صيفيةٍ، لنفكرَ في المستقبل، ونتخيّلَ الطريقَ إليه سواء كانت هذه الطريقُ تمتد من الماضي أو طريقاً جديدةً على نقيضِ الماضي الذي نأتي منه.

الماضي كوحشٍ أصبح أليفاً

 لوْ قمتُ بكتابةِ هذه النصِ منذ خمسِ سنوات،  لكنتُ ربما تعرضّتُ لنوباتِ هلعٍ متكررة. كيفَ يمكنُ أنْ نكتبَ إلى العامِ عن حدثٍ يتداخلُ فيه الشخصُي مع السياسي، ولِمَنْ؟ لنسوياتٍ أو ناشطاتٍ كُنَّ في حدثٍ أخرجَ كل ما في المعنياتِ به من خوفٍ وكرهٍ وشرٍ مطلق، ولماذا نكتبُ عنه؟ هل نكتبُ عن الأحداثِ التي سببت ألماً لأنها وسيلةٌ لتعافٍ، أم لنوثقَ الحدثَ للتاريخِ، أم لنتخطى الحدث.  لكني أكتبُ هذا النصَ الآن، ومعه تأتي مجدداً كل هذه المشاعر، ولكنها، ومعَ وفرتِها، تأتي كلها مع إحساسٍ بالخسارةِ، والفقدان، مع رغبةٍ شديدةٍ في أن يبقى الماضي في ذاكرتي، ولكني أنسى كيف كنتُ أشعرُ خلاله. الماضي الخاصُ بالحركاتِ النسويةِ الشابة من 2008 االى 2013في بيروت مؤلمٌ ولكنه ليسَ قدراً، وها هو حاضري يقولُ إننا جميعاً نتعلمُ، ولوْ دفعنْا الثمنَ بشكلٍ غيرِ متكافئ، وغيرِ عادل.الماضي هذا، أصبحَ وحشاً أليفاً، أُشفقُ عليه أحياناً، لأنه خسرَ كل شيء، وخصوصاً قدرته على إعادةِ إنعاشِ نفسه، لأنه هذا الماضي الوحشُ لم يدّمر فقط جسوراً ليعبرها، بل دمّرَ معها قدرتَه على الاستمرار.  وحشُ من الماضي، أصبحَ اليفاً، يتسكع في تاريخي الشخصي والسياسي، كتذكارٍ عن أشياءٍ لن تعود.

  أعلمُ أنَّ العملَ النسويَ، بخلافِ أي عملٍ آخرَ،  يتسلطُ عليه ناظرونَ من مختلفِ الجهات، وقد يكونُ ذلك لأن الأبويةَ عادةً لا تطمئنُ حين تعملُ النساءُ مع بعضهن البعض،  وقد يكونُ ذلك لأن الأبويةَ أيضاً تفترضُ أنَّ عملَ النساءِ وخطابهنَّ بحاجة في نهايةِ الأمر لاكتسابِ شرعيةٍ ما، وقد يكون أيضاً لأن الأبويةَ تفرضُ على العديدينَ أن ينقدوا عملَ النساء لأنَّ في ذلك تأكيداً على موقعِ مَنْ لا يؤمنُ بعملِ النساءِ في هيكليةِ السلطة.

كل هذا لا يشجعني، وأعتقدُ أن الأخريات مثلي، على إنتاجِ محتوى شفاف، وقادرٍ على نقلِ تجاربَ وفرزِ خطاباتٍ مهمةٍ جداً، كما يجعلُ التنظيمُ السياسي العملَ النسوي نشاطاً غيرَ سلسٍ لأنه يتعرّضُ للشكِ والتأويلِ في كافة الأوقات. في الانكليزية كل هل  التسلط يُسمى entitlement  او الشعورُ بالأحقيةِ في أنْ تفرضَ رأيكَ أو حاجتَك على الآخرين لأن ذلك حقٌ لكَ دونَ أن يكونَ في الواقع كذلك. لذا يتطلبُ التنظيمُ النسوي في السياسةِ والشأنين العام والخاص، شجاعةً في مواجهةِ هذا التسلط، وأيضاً طاقةً للإستمرارِ في العملِ رغم كل هذا. لذا، يصعبُ علي الدخولُ في مسائلَ تتطلبُ سرداً لوقائعَ وتفاصيل وأحداث، أعلمُ مسبقاً أنَّ المتسلطين سيستعملونها ضد كل شيء، أو سوف تُأخذُ مني كسردٍ خاص، وتُستعمَلَ كسردٍ خاصٍ من قِبلِ الكثيرين والكثيرات لأن جزءاً كبيراً من الentitlement  هو استعارةُ تجاربٍ لم تُعَش على المستوى الشخصي لتبريرِ  خطابٍ سياسي والتأكيد عليه.

مع ذلك من الضروري أنْ نكتبَ ونستمرَ في الكتابةِ عن العملِ النسوي والتنظيمِ السياسي والعملِ على اكتشافِ الحلولِ لكل ما يعيقُ عملنا من أمورٍ داخليةٍ أو خارجية، لأن في ذلك إستمراريةً للحركةِ نفسها وتجدداً في المحتوى المعرفي المطلوبِ توفيرُه دائما. ما الذي يمكنُ تعلمُه مِنَ الوحشِ الذي أصبحَ  أليفاَ، وكيف يمكنُ الاستنادُ إلى هذه الدروسِ لننجحَ ولا نفشل، على رغم أنَّ ماضيَ الحركاتِ النسويةِ ميالٌ أكثرَ إلى الإضاءةِ على الخساراتِ والألم، أكثر مما هو ميالٌ للإضاءةِ على النجاحِ أو النجاة.

 أعتقدُ أنَّ تجاربي في العملِ النسوي أعطتني أمراً أو إثنين قد ينفعان  من يهمها الأمرُ، وهي مثلي مصابةٌ بشغفِ التنظيمِ. أمران قد يساعدان في عدمِ الوقوعِ في نفسِ الفخ، غيرَ أنَّ من هي مثلي يقعُ عليها أنْ تكونَ أيضاً أتت ألى الحركةِ النسويةِ مِنْ بابِ الحاجةِ الحرجة، لا من أي بابٍ آخر.

 

مَنْ في حاجةٍ للفضاءاتِ والحركة

يستمدُ الوحشُ الذي يأكلُ حركاتِنا ويهددُ وجودَها قوتَه من عدةِ أمورٌ، أولُها الافتراضُ الذي يقومُ على أنَّ الجميعَ في المجموعةِ\ الحركة\ التنظيم بحاجةٍ إلى الفضاءِ النسوي بشكل متساوٍ. فكيف يمكنُ أن تكونَ الحاجةُ للمجموعةِ النسويةِ متساويةً للبنانياتِ والسورياتِ والفلسطينيات واحدةً، كيف يمكنُ أن تتساوى حاجةُ اللواتي يعشنَ عبءَ تجديدِ الإقاماتِ والعيشَ تحتِ قوانين تمنعُ عنهنَ العملَ ويواجهنَ كراهيةً لأنهنَ لسنَ فقط نساءً بل أيضاً مختلفاتٍ. وكيف يمكنُ أن يتحملنَ في الوقتِ نفسه عبءَ التنظيمِ الداخلي مع لبنانياتٍ يعشنَ أوجهاً متعددةً من التمييز، ولكنَّ علاقتهن بالدولةِ والقوانين والمواطَنة والانتخابات ليست  نفسها.

وكيف إذاً نفهمُ أنَّ المجموعاتِ النسويةَ إذا كانت متنوعةً من حيت الطبقة والجنسية تُعاشُ بتجاربَ مختلفة، وفي نفسِ الوقتِ كيف يمكنُ لنا أن نتواجدَ دونَ أن تكونَ علاقتنُا السياسيةُ مبنيةً على الهويةِ الطبقيةِ أو الجنسيةِ أو العرق حصراً. وكيف يمكنُ أن يكونَ الفضاءُ قابلاً لأن يعترفَ أنَّ على اللبنانيات واللبنانيين فيه، وبصرفِ النظرِ عن رفضهم أو مقاطعتِهم لمؤسساتِ الدولة وعلاقتهم معها، أن يتركوا مجالاً لأن تُعاشَ فيه تجاربٌ مختلفةٌ دونَ انْ يكونَ إحساسُهم بالذنبِ  أو عدم قدرتِهم على فهمِ التجربةِ بالكامل نقطةَ توترٍ تجعلُ التنظيمَ أو الحركةَ تعتاش على  صمت المختلفات والمختلفين وذلك عبر تجاهل وجود تجربة اخرى للفضاء النسوي وبالتالي قمعها، وبالتالي وضع المختلفات والمختلفَين أمامَ خيارِ الرحيلِ او التماهي.

إنَّ النسوياتِ اللواتي يختبرنَ العيشَ في لبنان يعشنَ يومياً أموراً تجرِّم أو ترفضُ وجودَهن بشكلٍ يومي، و تصبحُ إحدى الخياراتِ القليلة للنسوياتِ غير اللبنانيات أن يعِدنَ تأكيدَ شرعيةِ هويتهن وعملهن ورأيهن في الفضاء\ الحركة النسوية. إذاً الحاجةُ إلى هذه الفضاءاتِ حرجةٌ للبعضِ أكثر من الآخر، ولا يعني ذلك أن هذا العوزُ لهذا الفضاءِ يجب أن يأتيَ مع تنازلات.

 

العقاب

ما الذي يحصلُ عندما يسيطرُ التوترُ على الفضاء\ الحركة، يقولُ لي الوحشُ، أنَّ الطريقةَ السهلةَ للتعاطي مع التوتر هي تجاهلُه، وإنْ لم يجدي ذلك نفعاً تبقى الطريقةُ المُثلى في أنْ تختارَ عدداً من الأدواتِ التي يوفرُها لنا النظامُ الأبوي، وهي متاحةٌ للجميع. إنَّ السببَ الذي يأتي منه التوترُ في فضاءاتنا أو حركاتنا يمكنُ حلُه، ولكن ذلك يتطلبُ عدّة خطواتٍ من التفكيرِ والنقدِ الذاتي والاعترافِ بالامتيازِ  والسِلمِ الشخصي غير الصحي أو المؤذي وإعطاءِ طاقةٍ ووقتٍ لحلِ التوترِ بشكلٍ عادلٍ ومناسبٍ للجميع، وكل هذا يستغرقُ وقتاً وجهداً، وأيضاً يتطلبُ بعضاً من التواضعِ والتراجعِ عن فكرةِ أنَّ هذا الفضاءَ هو ملكيةٌ خاصةٌ لمجموعةٍ أو افراد.

ولكنَّ الوحشَ لا يستطيعُ أن يقوم بكل هذا، فيتمُّ التعاطي مع التوتراتِ إما بتجاهلِ الفردِ اذا كانَ سببَ التوتر، أو في نشرِ الاشاعاتِ التي غالباً ما تحاكي في جوهرِها هواجسَ أبوية، فيكونُ الفردُ إما مجنوناً أو مستحيلَ الشخصية، ويتجردُ الفردُ من أي مصداقيةٍ لما يشعرُ به ويقول به، ويختارُ في غالبِ الأحيانِ أنْ يرحل. وقد يكونُ سببُ التوترِ أيضاً العملُ نفسه، النشاطُ أو المشروع، وغالباً ما يكونُ هذا التوترُ نابعاً من شعورِ أفرادٍ في عدمِ قدرتهم على المشاركة، أو في تصرفِ الآخرين والأخريات في نشاطاتٍ بكل أحقية.

يقولُ الوحشُ إنَّ الطريقةَ المُثلى للتعاملِ مع النشاطاتِ أو المشاريع التي يأتي من جراءها توترٌ عادةً ما تُعاقبُ من خلالِ التعاملِ معها على أساسِ أنها غيرُ موجودة، تماماً كما يُعاقِبُ التاريخُ الأبويُ النساءَ من خلالِ إسقاطهم من التاريخ، فلم يكنَّ في البدء ولن يكنَّ في الحاضر.

إنَّ التوترَ في الحركاتِ\ الفضاء معرَّضٌ للعقاب، لأنه غالباً ما يزعجُ الأشخاصَ الذي يتطلب منهم أن يعيدوا النظرَ في سلوكهم وعملهم الشخصي والسياسي. معَ ضيق المساحاتِ، ولأنَّ الوحشَ خرجَ عن السيطرةِ في معاقبةِ النسوياتِ والمشاريع التي سببت له التوترَ، ولأن التاريخَ دائماً منصفٌ، يبقى أن ننظفَ بيوتنا جماعياً من أدواتِ الوحش، وأن نستثمرَ في الأصعب، لا في الأسهل. فأدواتُ الوحشِ قد تدفعُ التوترَ وأسبابَه للرحيل، لكنها لا تضمنُ ديمويةَ الصمت.

 

 حتميةُ البوح

  لا أدري تماماً كيف وجدتُها، أعتقد أنني كنتُ في إجتماعٍ وقام شخصٌ باستعمالِ أٌّدواتِ الوحش معي في الماضي، ولكني لم أكن خائفةً ولم أُرِد الرحيل. لا أدري لمَ كنتُ واثقةً أنَّ الشخصَ المتنمرَ في حالةِ خوفٍ، وفي محاولةٍ مستميتةٍ لأن يعززَ خطابَ أن لا نشاطَ نسوياً حقيقياً، ولكني كنتُ أعلمُ أن هذا الخطابَ والدافعَ للشك في وجودِ مجموعاتٍ كثيرةٍ وعديدةٍ ومتنوعة، هو خوفٌ من أن أقول، أنتِ أذيتني، ولكني بخير. كنت أعلمُ أنَّ البوحَ حتميٌ والصمتُ مؤقت، كنتُ أعلمُ أنه في السنواتِ الأخيرة ما كان محرماً علينا التفوهُ به أصبحَ أحاديثَ جدية. التنمرُ والعقاب والتحقير من عملِ الأخريات وإطلاقِ الإشاعاتِ أصبحَ هموماً جدية، وربما ليسَ لدي أو لدينا حالياً  الأدوات التي تمكننا أنْ نتخلصَ من كل هذه الأدواتِ الأبوية، لكني أعرفُ أنها أمورٌ تصغي الناسُ إليها وتراها.

لهذا كله، أعلمُ اليوم أنَّ البوحَ حتميٌ، ويمكن له ألا يكونَ نصاً علنياً أو مواجهة،  ولكنه شعورٌ داخلي أنَّ الحديثَ عنه بشكلٍ خاص أو بشكل عام ينقلُنا من موقعِ الخوف إلى موقعِ الأمان.

هناكَ نقلةٌ نوعيةٌ في العملِ النسوي في السنواتِ الخمس الأخيرة، كما هناك عددٌ لا بأس به من مجموعاتٍ وأنديةٍ ومؤسسات نشأت في هذه الفترةِ الزمنية، وأمنيتي أن نتضاعف عدداً وأن نتنوعَ عملاً. لكني في هاتين السنتين مبهورةٌ بالنسوياتِ اللواتي  بدأنَ التنظيمَ والعمل في السنوات الأخيرة، وفي قدرتِهن على الانتباهِ إلى أنَّ الوحشَ موجودٌ والاعترافُ به واجبٌ والعملُ قدرَ المستطاع كي لا يتسللَ إلى بيوتهن.

 علمتني هذه المجموعات والتنظيمات أنَّ الاستمراريةَ والتضامنَ النسوي هما الأساسُ لكي تكونَ حركتُنا النسويةُ صحية.

 السعادة صوت

لا أستطيعُ بعد أنْ أتخيلَ كيف ستكونُ "صوت النسوة" بعد الخلوة. لكني أعلمُ أنها ستكونُ مفتوحةً لعددٍ أكبر من الكاتباتِ والفناناتِ والساحراتِ والأفراد المختلفين وغير النمطيين. لكني أعرفُ أني مدينةٌ لها كفكرةٍ ومبادرةٍ ولكل منْ مرَّت بها أو أتت إليها طالبةً الأمانَ مِنَ الوحشَ في أنْ تجعلني نسويةً أفضل. كما مدينةٌ لـ"صوت النسوة"، لأنها كانت الأمانَ حين كانَ الوحشُ شديدَ القساوةِ والتدمير.

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: