سارة أبو غزال
لم يعد القتلُ سهلاً في بلدٍ رصاصُ المسدسِ فيه على الصدورِ وفي الرؤوسِ أمرٌ عادي، و"بيقْطَع". لم يعد القتلُ حادثاً فردياً يعتذر عنه الزعيمُ ويحصدُ منِه شرعيةً، لم يعد مشهدُ العزاءِ صورةَ الذّلِ التي كسرت ظهورَ الكثيرين: إرسلان بيّْك يدخن غليوناً ويجلس رافعاً رجلاً فوق الأُخرى وبقربه أبُ القتيل يبكي. الموتُ عند الزعيم ماضٍ وحاضرٌ ومستقبل، موتُ كُل الناس إلاه، موتُ كُل الأحلامِ إلّا كوابيسه التي تجعلُنا نزورُ المقابرَ باكراً ونخافُ من الحائطِ حتى لو مشينا قربه.
لم يعد القتلُ احتمالاً وارداً ولا قدرةَ لنّا على مواجهته، لم يعد "الموتُ يخطفُ شاباً في مقتبلِ العمر" كجملةٍ عابرةٍ في نشرة الأخبار. الموتُ أصبحَ قاتلاً بإسمٍ ووجهٍ وقدرةٍ على تسليمِ نفسه بعد ساعتين إلى المخفَر. القتلُ أصبحَ علامتَهم التجارية، لم نعد نضطرُ إلى أن نقولَ "حرام"، اختفت الشفقةُ واختفى العجزُ معها، القتلُ أصبحَ جريمةً، لا يستطيعُ أن يستنكرَها الزعيم، لم يعُد من أهلِ الفقيد. لا توجدُ كراسٍ للزعماءِ في العزّاءِ الذي عاد طقوساً للثكالى اللواتي لا يردن للدمّ أن يبردَ، ولا يردنَ للبكاءِ أن يكون خافتاً بل ندباً صارخاً وقرعاً على الصدورِ أمام الشاشاتِ وطلباً للثأرِ من الساحات. أصبح الندبُ بديلاً من الصبّر والسلوان، أصبحَ الندبُ تعليماتِ أهلِ الفقيدِ للشارع، لا تتركوا الساحات.
مبارحة أصبحت الثورةُ كذلك من أجل الثكالى واللواتي ينتظرنَ لقاءَ الأحبةِ المفقودين أيضاً منذ 30 عاماً، اللواتي قضمت السنون أصواتهن الصارخة على مصيرِ الآلافِ من أحبائهن، كانت الثكالى اليوم متحداتٍ مع الماضي، أمامَ جثثِ الضحايا في المجازرِ والاشتباكاتِ، متحدات، كُل هذه ألمٌ من أفواههن حرّرَ أيضاً ما لم تستطِع أن تبوحَ به وتقومَ به كُل من أخفت حزنَها طوال هذه السنين كثمنٍ ليبقى مزاجُ الزعيم هانئاً ولا يفسدَ على أحدٍ السلم الأهلي.
مبارحة أصبحت هذه الثورةُ أيضاً لأجل كُل اللواتي لم نستطِع أن نقيمَ عزاء لهن لأنهن قُتلن أيضاً، الكفالةُ فكرةُ الزعيمِ عن الرفاه، عبقريةُ الزعيمِ في أن يجعلَ الناسَ شريكةً أيضاً في القتلِ السهل، الحوادثُ الفردية التي لا تنفك تتكررُ أسبوعياً ويومياً وشهرياً، جثثُ كُل العاملات اللواتي قُتلن وانتُحِرن فداء لفكرةِ الزعيمِ عن الرّفاه، فهو يقتلُك أحياناً، يأخذ كل أملاكِك العامة ويلوّثُ جبلك ونهرك وبحرك، ولكنه يؤمنُ لك إحساساً غريباً عن النعيمِ الخاص به، هذه النعيم المبني على ظهرِ شخص ما. هذه الثورة أيضاً عزاءٌ لنا، وحقُنا في تعدادِ كُل هذه الجثث واعتبارِها شهيداتٍ لنا، هذه الثورة أيضاً تخلٍّ عن الرفاه من وجهةِ نظرِ الزعيم واستعادةٌ ليس فقط للأموالِ المنهوبة، بل استعادة لحقِّ الناس في قوانين لا تقتلُ ولا تسببُ بقتلِ النفوس. هذه الثورةُ هي عزاءُ كُل العاملاتِ اللواتي لا يستطعنَ الثأر منّا في الساحات. هذه الثورةُ من أجل الثكالى اللواتي خسرن 120 ألف قلبٍ وقلب، ولم تقدرُ أي منهن على الحزن، كيفَ تبكي والقصفُ مشتعلٌ، هذه الثورة تعيدُ للناس حقها بالحزنِ والخسارة. هذه الثورةُ من أجلِ المخيماتِ التي ما برحت تقولُ أيضاً، لا شرعيةَ لقوانينهم العنصرية والتي لم تُسمع لأن ضجيجَ هواجسِكم كان أعلى. هذه ثورةُ الثكالى، ثورةُ كل من فقدت شيئاً ما وتصرخ بنا جميعاً، لا تتركوا/ن الساحات.
Publisher:
Section:
Category: